فَالْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ؟ نَقُولُ: فِيهِ ووجهان الْأَوَّلُ: الْقُرْآنُ كَانُوا يَجْعَلُونَهُ تَارَةً شِعْرًا وَأُخْرَى سِحْرًا وَغَيْرَ ذَلِكَ وَثَانِيهِمَا: هُوَ التَّوْحِيدُ وَالْحَشْرُ وَهُوَ أَظْهَرُ، وَقَوْلُهُ: لَقُرْآنٌ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ وَسَنُبَيِّنُ ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي وَصْفِهِ بِالْعَظِيمِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ فَنَقُولُ: لَمَّا قَالَ: فَلا أُقْسِمُ وَكَانَ مَعْنَاهُ: لَا أُقْسِمُ بِهَذَا لِوُضُوحِ الْمُقْسَمِ بِهِ عَلَيْهِ. قَالَ: لَسْتُ تَارِكًا لِلْقَسَمِ بِهَذَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقَسَمٍ أَوْ لَيْسَ بِقَسَمٍ عَظِيمٍ، بَلْ هُوَ قَسَمٌ عَظِيمٌ وَلَا أُقْسِمُ بِهِ، بَلْ بِأَعْظَمَ مِنْهُ أُقْسِمُ لِجَزْمِي بِالْأَمْرِ وَعِلْمِي بِحَقِيقَتِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْيَمِينُ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ تُوصَفُ بِالْمُغَلَّظَةِ، وَالْعِظَمِ يُقَالُ: فِي الْمُقْسِمِ حَلَفَ فُلَانٌ بِالْأَيْمَانِ الْعِظَامِ، ثُمَّ تَقُولُ فِي حَقِّهِ يَمِينٌ مُغَلَّظَةٌ لِأَنَّ آثَامَهَا كَبِيرَةٌ. وَأَمَّا فِي حَقِّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَبِالْعَظِيمِ وَذَلِكَ هُوَ الْمُنَاسِبُ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ هُوَ الَّذِي قَرُبَ قَوْلُهُ مِنْ كُلِّ قَلْبٍ وَمَلَأَ الصَّدْرَ بِالرُّعْبِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مَعْنَى الْعَظِيمِ فِيهِ ذَلِكَ، كَمَا أَنَّ الْجِسْمَ الْعَظِيمَ هُوَ الَّذِي قَرُبَ مِنْ أَشْيَاءَ عَظِيمَةٍ وَمَلَأَ أَمَاكِنَ كَثِيرَةً مِنَ الْعِظَمِ، كَذَلِكَ الْعَظِيمُ الَّذِي لَيْسَ بِجِسْمٍ قَرُبَ مِنْ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، وَمَلَأَ صُدُورًا كثيرة. ثم قال تعالى:
[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٧٧ الى ٨٠]
إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لَا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨٠)
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ عَائِدٌ إِلَى مَاذَا؟ فَنَقُولُ: فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: إِلَى مَعْلُومٍ وَهُوَ الْكَلَامُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْكُلِّ، وَكَانَ الْكُفَّارُ يَقُولُونَ: إِنَّهُ شِعْرٌ وَإِنَّهُ سِحْرٌ، فَقَالَ تَعَالَى رَدًّا عَلَيْهِمْ: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ عَائِدٌ إِلَى مَذْكُورٍ وَهُوَ جَمِيعُ مَا سَبَقَ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ مِنَ التَّوْحِيدِ، وَالْحَشْرِ، وَالدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ عَلَيْهِمَا، وَالْقَسَمِ الَّذِي قال فيه: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ [الواقعة: ٧٦] وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ قَالُوا:
هَذَا كُلُّهُ كَلَامُ مُحَمَّدٍ وَمُخْتَرَعٌ مِنْ عِنْدِهِ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْقُرْآنُ مَصْدَرٌ أَوِ اسْمٌ غَيْرُ مَصْدَرٍ؟ فَنَقُولُ: فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: مَصْدَرٌ أُرِيدَ بِهِ الْمَفْعُولُ وَهُوَ الْمَقْرُوءُ وَمِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ [الرَّعْدِ: ٣١] وَهَذَا كَمَا يُقَالُ فِي الْجِسْمِ الْعَظِيمِ: انْظُرْ إِلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْ مَقْدُورِهِ وَهُوَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تعالى: هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي [لقمان: ١١] ثانيهما: اسم لما يقرأ كالقربان لما يتقرب به، والحلوان لما يحلى به فم المكاري أو الكاهن/ وَعَلَى هَذَا سَنُبَيِّنُ فَسَادَ قَوْلِ مَنْ رَدَّ عَلَى الْفُقَهَاءِ قَوْلَهُمْ فِي بَابِ الزَّكَاةِ: يُعْطِي شَيْئًا أَعْلَى مِمَّا وَجَبَ وَيَأْخُذُ الْجُبْرَانَ أَوْ يُعْطِي شَيْئًا دُونَهُ، وَيُعْطِي الْجُبْرَانَ أَيْضًا، حَيْثُ قَالَ: الْجُبْرَانُ مَصْدَرٌ لَا يُؤْخَذُ وَلَا يُعْطَى، فَيُقَالُ لَهُ هُوَ كَالْقُرْآنِ بِمَعْنَى الْمَقْرُوءِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: لِمَا أُخِذَ جَابِرٌ أَوْ مَجْبُورٌ أَوْ يُقَالُ: هُوَ اسْمٌ لِمَا يُجْبَرُ بِهِ كَالْقُرْبَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا كَانَ هَذَا الْكَلَامُ لِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَهُمْ مَا كَانُوا يُنْكِرُونَ كَوْنَهُ مَقْرُوءًا فَمَا الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ؟ نَقُولُ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِخْبَارٌ عن الكل وهو قوله: قرآن كَرِيمٌ فَهُمْ كَانُوا يُنْكِرُونَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute