الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ هُوَ أَنَّهُمْ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ حَالَ كَوْنِهِمْ رَاكِعِينَ احْتَجُّوا بِالْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ الْقَلِيلَ لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ، فَإِنَّهُ دَفَعَ الزَّكَاةَ إِلَى السَّائِلِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ نَوَى إِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ لَا تَقْطَعُ الصَّلَاةَ، وَبَقِيَ فِي الْآيَةِ سُؤَالَانِ.
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ هُوَ اللَّه تَعَالَى وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ، فَلِمَ لَمْ يَقُلْ: إِنَّمَا أَوْلِيَاؤُكُمْ؟
وَالْجَوَابُ: أَصْلُ الْكَلَامِ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّه، فَجُعِلَتِ الْوَلَايَةُ للَّه عَلَى طَرِيقِ الْأَصَالَةِ، ثُمَّ نُظِمَ فِي سَلْكِ إِثْبَاتِهَا لَهُ إِثْبَاتُهَا لِرَسُولِ اللَّه وَالْمُؤْمِنِينَ عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِ، وَلَوْ قِيلَ: إِنَّمَا أَوْلِيَاؤُكُمُ اللَّه وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا لَمْ يَكُنْ فِي الْكَلَامِ أَصْلٌ وَتَبَعٌ، وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّه: إِنَّمَا مَوْلَاكُمُ اللَّه.
السُّؤَالُ الثَّانِي: الَّذِينَ يُقِيمُونَ مَا مَحَلُّهُ؟
الْجَوَابُ: الرَّفْعُ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا أَوْ يُقَالُ: التَّقْدِيرُ: هُمُ الَّذِينَ يُقِيمُونَ، أَوِ النَّصْبُ عَلَى الْمَدْحِ، وَالْغَرَضُ مِنْ ذِكْرِهِ تَمْيِيزُ الْمُؤْمِنِ الْمُخْلِصِ عَمَّنْ يَدَّعِي الْإِيمَانَ وَيَكُونُ مُنَافِقًا لِأَنَّ ذَلِكَ الْإِخْلَاصَ إِنَّمَا يُعْرَفُ بِكَوْنِهِ مُوَاظِبًا عَلَى الصَّلَاةِ فِي حَالِ الرُّكُوعِ، أَيْ فِي حال الخضوع والخشوع والإخبات للَّه تعالى.
[[سورة المائدة (٥) : آية ٥٦]]
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (٥٦)
فيه مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْحِزْبُ فِي اللُّغَةِ أَصْحَابُ الرَّجُلِ الَّذِينَ يَكُونُونَ مَعَهُ عَلَى رَأْيِهِ، وَهُمُ الْقَوْمُ الَّذِينَ يَجْتَمِعُونَ لِأَمْرِ حِزْبِهِمْ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ عِبَارَاتٌ. قَالَ الْحَسَنُ: جُنْدُ اللَّه، وَقَالَ أَبُو رَوْقٍ: أَوْلِيَاءُ اللَّه وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: شِيعَةُ اللَّه، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَنْصَارُ اللَّه. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: حِزْبُ اللَّه الَّذِينَ يَدِينُونَ بِدِينِهِ وَيُطِيعُونَهُ فَيَنْصُرُهُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ جُمْلَةٌ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ، وَالْعَائِدُ غَيْرُ مَذْكُورٍ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا، وَالتَّقْدِيرٌ فَهُوَ غَالِبٌ لِكَوْنِهِ من جند اللَّه وأنصاره.
[[سورة المائدة (٥) : آية ٥٧]]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى نَهَى فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَنِ اتِّخَاذِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ وَسَاقَ الْكَلَامَ فِي تَقْرِيرِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ هاهنا النَّهْيَ الْعَامَّ عَنْ مُوَالَاةِ جَمِيعِ الْكُفَّارِ وَهُوَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ الْكُفَّارِ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَمِنَ الْكُفَّارِ، وَالْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا بِتَقْدِيرِ: وَلَا الْكُفَّارَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قِيلَ: كَانَ رفاعة بن زيد وسويد بن الحرث أَظْهَرَا الْإِيمَانَ ثُمَّ نَافَقَا، وَكَانَ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُوَادُّونَهُمَا، فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي امْتِيَازَ أَهْلِ الْكِتَابِ عَنِ الْكُفَّارِ لِأَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ، وَقَوْلُهُ لَمْ