للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَكُونُ قَطْعِيًّا لَوْ كَانَ مَنْقُولًا نَقْلًا مُتَوَاتِرًا وَكَانَتْ دَلَالَتُهُ عَلَى ثُبُوتِ هَذَا الْمَطْلُوبِ دَلَالَةً قَطْعِيَّةً غَيْرَ مُحْتَمِلَةٍ النَّقِيضَ وَلَوْ حَصَلَ مِثْلُ هَذَا الدَّلِيلِ لَوَصَلَ إِلَى الْكُلِّ وَلَعَرَفَهُ الْكُلُّ وَلَارْتَفَعَ الْخِلَافُ، وَحَيْثُ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ فِي هَذِهِ/ الْمَسْأَلَةِ دَلِيلٌ سَمْعِيٌّ قَاطِعٌ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِي إِثْبَاتِ كَوْنِ الْقِيَاسِ حُجَّةً دَلِيلٌ قَاطِعٌ الْبَتَّةَ، فَبَطَلَ قَوْلُكُمْ كَوْنُ الْحُكْمِ الْمُثْبَتِ بِالْقِيَاسِ حُجَّةً مَعْلُومٌ لَا مَظْنُونٌ، فَهَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الدَّلِيلِ.

وَأَحْسَنُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي الْجَوَابِ عَنْهُ إِنَّ التَّمَسُّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي عَوَّلْتُمْ عَلَيْهَا تَمَسُّكٌ بِعَامٍّ مَخْصُوصٍ، وَالتَّمَسُّكُ بِالْعَامِّ الْمَخْصُوصِ لَا يُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ، فَلَوْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ التَّمَسُّكَ بِالظَّنِّ غَيْرُ جَائِزٍ لَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ التَّمَسُّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ غَيْرُ جَائِزٍ، فَالْقَوْلُ بِكَوْنِ هَذِهِ الْآيَةِ حُجَّةً يُفْضِي ثُبُوتُهُ إِلَى نَفْيِهِ فَكَانَ تَنَاقُضًا فَسَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلِلْمُجِيبِ أَنْ يُجِيبَ فَيَقُولُ: نَعْلَمُ بِالتَّوَاتُرِ الظَّاهِرِ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ التَّمَسُّكَ بِآيَاتِ الْقُرْآنِ حُجَّةٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ هَذَا الْجَوَابِ بِأَنَّ كَوْنَ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ حُجَّةً غَيْرُ مَعْلُومٍ بِالتَّوَاتُرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا فِيهِ بَحْثَانِ:

الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعُلُومَ إِمَّا مُسْتَفَادَةٌ مِنَ الْحَوَاسِّ، أَوْ مِنَ الْعُقُولِ. أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِذِكْرِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا سَمِعَ شَيْئًا وَرَآهُ فَإِنَّهُ يَرْوِيهِ وَيُخْبِرُ عَنْهُ، وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: فَهُوَ الْعُلُومُ الْمُسْتَفَادَةُ مِنَ الْعَقْلِ وَهِيَ قِسْمَانِ: الْبَدِيهِيَّةُ وَالْكَسْبِيَّةُ، وَإِلَى الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ الْإِشَارَةُ بِذِكْرِ الْفُؤَادِ.

الْبَحْثُ الثَّانِي: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هذه الجوارح مسؤولة وَفِيهِ وُجُوهٌ:

الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ صاحب السمع والبصر والفؤاد هو المسؤول لِأَنَّ السُّؤَالَ لَا يَصِحُّ إِلَّا مِمَّنْ كَانَ عَاقِلًا، وَهَذِهِ الْجَوَارِحُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، بَلِ الْعَاقِلُ الفاهم هو الإنسان، فهو كقوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يُوسُفَ: ٨٢] وَالْمُرَادُ أَهْلُهَا يُقَالُ لَهُ لِمَ سَمِعْتَ مَا لَا يَحِلُّ لَكَ سَمَاعُهُ، وَلِمَ نَظَرْتَ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ لَكَ النَّظَرُ إِلَيْهِ، وَلِمَ عَزَمْتَ عَلَى مَا لَا يَحِلُّ لَكَ الْعَزْمُ عَلَيْهِ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ تَقْرِيرَ الآية أن أولئك الأقوام كلهم مسؤولون عَنِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْفُؤَادِ فَيُقَالُ لَهُمُ اسْتَعْمَلْتُمُ السَّمْعَ فِي مَاذَا أَفِي الطَّاعَةِ أَوْ فِي الْمَعْصِيَةِ؟ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي بَقِيَّةِ الْأَعْضَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْحَوَاسَّ آلَاتُ النَّفْسِ، وَالنَّفْسُ كَالْأَمِيرِ لَهَا وَالْمُسْتَعْمِلُ لَهَا فِي مَصَالِحِهَا فَإِنِ اسْتَعْمَلَتْهَا النَّفْسُ فِي الْخَيْرَاتِ اسْتَوْجَبَتِ الثَّوَابَ، وَإِنِ اسْتَعْمَلَتْهَا فِي الْمَعَاصِي اسْتَحَقَّتِ الْعِقَابَ.

وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ ثَبَتَ بِالْقُرْآنِ أَنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ الْحَيَاةَ فِي الْأَعْضَاءِ ثُمَّ إِنَّهَا تَشْهَدُ عَلَى الْإِنْسَانِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [النُّورِ: ٢٤] وَلِذَلِكَ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَخْلُقَ الْحَيَاةَ وَالْعَقْلَ وَالنُّطْقَ فِي هَذِهِ الْأَعْضَاءِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يُوَجِّهُ السؤال عليها.

[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٣٧ الى ٣٨]

وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (٣٧) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (٣٨)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا] اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَرَحُ شِدَّةُ الْفَرَحِ يُقَالُ: مَرِحَ يَمْرَحُ مَرَحًا فَهُوَ مَرِحٌ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ النَّهْيُ عَنْ أَنْ يَمْشِيَ

<<  <  ج: ص:  >  >>