للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِهَا، فَأَخْرَجَهُ اللَّه مِنَ الْمَاءِ مَعَ ذَلِكَ الدِّرْعِ لِيُعْرَفَ. أَقُولُ: إِنْ صَحَّ هَذَا فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مُعْجِزَةً لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً فَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْمًا مِمَّنِ اعْتَقَدُوا فِيهِ الْإِلَهِيَّةَ لَمَّا لَمْ يُشَاهِدُوا غَرَقَهُ كَذَّبُوا بِذَلِكَ وَزَعَمُوا أَنَّ مِثْلَهُ لَا يَمُوتُ، فَأَظْهَرَ اللَّه تَعَالَى أَمْرَهُ بِأَنْ أَخْرَجَهُ مِنَ الْمَاءِ بِصُورَتِهِ حَتَّى شَاهَدُوهُ وَزَالَتِ الشُّبْهَةُ عَنْ قُلُوبِهِمْ. وَقِيلَ كَانَ مَطْرَحُهُ عَلَى مَمَرِّ بَنِي إِسْرَائِيلَ. الثَّانِي: لَا يَبْعُدُ أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ أَنْ يُشَاهِدَهُ الْخَلْقُ على ذلك الذل والمهانة بعد ما سَمِعُوا مِنْهُ قَوْلَهُ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [النَّازِعَاتِ: ٢٤] لِيَكُونَ ذَلِكَ زَجْرًا لِلْخَلْقِ عَنْ مِثْلِ طَرِيقَتِهِ، وَيَعْرِفُوا أَنَّهُ كَانَ بِالْأَمْسِ فِي نِهَايَةِ الْجَلَالَةِ وَالْعَظَمَةِ ثُمَّ آلَ أَمْرُهُ إِلَى مَا يَرَوْنَ. الثَّالِثُ: قَرَأَ بَعْضُهُمْ لِمَنْ خَلَقَكَ بِالْقَافِ أَيْ لِتَكُونَ لِخَالِقِكَ آيَةً كَسَائِرِ آيَاتِهِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَغْرَقَهُ مَعَ جَمِيعِ قَوْمِهِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى مَا أَخْرَجَ أَحَدًا مِنْهُمْ مِنْ قَعْرِ الْبَحْرِ، بَلْ خَصَّهُ بِالْإِخْرَاجِ كَانَ تَخْصِيصُهُ بِهَذِهِ الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ دَالًّا عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى وَعَلَى صِدْقِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي دَعْوَى النُّبُوَّةِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ قِصَّةَ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ وَذَكَرَ حَالَ عَاقِبَةِ فِرْعَوْنَ وَخَتَمَ ذَلِكَ بِهَذَا الْكَلَامِ وَخَاطَبَ بِهِ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَيَكُونُ ذَلِكَ زَاجِرًا لِأُمَّتِهِ عَنِ الْإِعْرَاضِ عَنِ الدَّلَائِلِ، وَبَاعِثًا لَهُمْ عَلَى التَّأَمُّلِ فِيهَا وَالِاعْتِبَارِ بِهَا، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْقَصَصِ حُصُولُ الِاعْتِبَارِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ [يوسف: ١١١] .

[[سورة يونس (١٠) : آية ٩٣]]

وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٩٣)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْخَتْمُ فِي وَاقِعَةِ فِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ، ذَكَرَ أَيْضًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الختم في أمر بني إسرائيل، وهاهنا بَحْثَانِ:

الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ أَيْ أَسْكَنَّاهُمْ مَكَانَ صِدْقٍ أَيْ مَكَانًا مَحْمُودًا، وَقَوْلُهُ: مُبَوَّأَ صِدْقٍ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ مَصْدَرًا، أَيْ بَوَّأْنَاهُمْ تَبَوُّأَ صِدْقٍ. الثَّانِي:

أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مَنْزِلًا صَالِحًا مَرْضِيًّا، وَإِنَّمَا وُصِفَ الْمُبَوَّأُ بِكَوْنِهِ صِدْقًا، لِأَنَّ عَادَةَ الْعَرَبِ أَنَّهَا إِذَا مَدَحَتْ شَيْئًا أَضَافَتْهُ إِلَى الصِّدْقِ تَقُولُ: رَجُلُ صِدْقٍ، وَقَدَمُ صِدْقٍ. قَالَ تَعَالَى: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ [الْإِسْرَاءِ: ٨٠] وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ إِذَا كان كاملا في وقت صَالِحًا لِلْغَرَضِ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ، فَكُلُّ مَا يُظَنُّ فيه من الخبر، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَصْدُقَ ذَلِكَ الظَّنُّ.

الْبَحْثُ الثَّانِي: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَهُمُ الْيَهُودَ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمِ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ.

أَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: فَقَدْ قَالَ بِهِ قَوْمٌ وَدَلِيلُهُمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ عَقِيبَ قِصَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ حَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَحْوَالِهِمْ أَوْلَى، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ الشَّامَ وَمِصْرَ، وَتِلْكَ الْبِلَادُ فَإِنَّهَا بِلَادٌ كَثِيرَةُ الْخِصْبِ. قَالَ تَعَالَى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ [الْإِسْرَاءِ: ١] وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ تِلْكَ الْمَنَافِعُ، وَأَيْضًا الْمُرَادُ مِنْهَا أَنَّهُ تَعَالَى أَوْرَثَ بَنِي إِسْرَائِيلَ جَمِيعَ مَا كَانَ تَحْتَ أَيْدِي قَوْمِ فِرْعَوْنَ مِنَ النَّاطِقِ وَالصَّامِتِ

<<  <  ج: ص:  >  >>