فَلَمَّا رَأَوْا وُجُوهَهُمْ قَدِ اسْوَدَّتْ أَيْقَنُوا بِالْعَذَابِ فَاحْتَاطُوا وَاسْتَعَدُّوا لِلْعَذَابِ فَصَبَّحَهُمُ الْيَوْمُ الرَّابِعُ وَهِيَ الصَّيْحَةُ وَالصَّاعِقَةُ وَالْعَذَابُ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ تَظْهَرَ فِيهِمْ هَذِهِ الْعَلَامَاتُ مُطَابِقَةً لِقَوْلِ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ يَبْقَوْنَ مُصِرِّينَ عَلَى الْكُفْرِ.
قُلْنَا: مَا دَامَتِ الْأَمَارَاتُ غَيْرَ بَالِغَةٍ إِلَى حَدِّ الْجَزْمِ وَالْيَقِينِ لَمْ يَمْتَنِعْ بَقَاؤُهُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَإِذَا صَارَتْ يَقِينِيَّةً قَطْعِيَّةً، فَقَدِ انْتَهَى الْأَمْرُ إِلَى حَدِّ الْإِلْجَاءِ وَالْإِيمَانُ فِي ذلك الوقت غير مقبول.
[سورة هود (١١) : الآيات ٦٦ الى ٦٨]
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٦٧) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (٦٨)
اعْلَمْ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْآيَةِ قَدْ مَضَى فِي قِصَّةِ عَادٍ، وَقَوْلُهُ: وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ خِزْيِ وَاوُ الْعَطْفِ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ/ التَّقْدِيرُ:
نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا مِنَ الْعَذَابِ النَّازِلِ بِقَوْمِهِ وَمِنَ الْخِزْيِ الَّذِي لَزِمَهُمْ وَبَقِيَ الْعَارُ فِيهِ مَأْثُورًا عَنْهُمْ وَمَنْسُوبًا إِلَيْهِمْ، لِأَنَّ مَعْنَى الْخِزْيِ الْعَيْبُ الَّذِي تَظْهَرُ فَضِيحَتُهُ وَيُسْتَحْيَا مِنْ مِثْلِهِ فَحُذِفَ مَا حُذِفَ اعْتِمَادًا عَلَى دَلَالَةِ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: نَجَّيْنَا صَالِحًا بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ الْكِسَائِيُّ ونافع في رواية ورش وقالوا وإحدى الروايات عن الأعشى يَوْمَئِذٍ بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَفِي الْمَعَارِجِ عَذَابِ يَوْمَئِذٍ [الْمَعَارِجِ: ١١] وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِ الْمِيمِ فِيهِمَا فَمَنْ قَرَأَ بِالْفَتْحِ فَعَلَى أَنَّ يَوْمَ مُضَافٌ إِلَى إِذْ وَأَنَّ إِذْ مَبْنِيٌّ، وَالْمُضَافُ إِلَى الْمَبْنِيِّ يَجُوزُ جَعْلُهُ مَبْنِيًّا أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُضَافَ يَكْتَسِبُ من المضاف إليه التعريف والتنكير فكذا هاهنا، وَأَمَّا الْكَسْرُ فِي إِذْ فَالسَّبَبُ أَنَّهُ يُضَافُ إِلَى الْجُمْلَةِ مِنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ تَقُولُ:
جِئْتُكَ إِذِ الشَّمْسُ طَالِعَةٌ، فَلَمَّا قُطِعَ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ نُوِّنَ لِيَدُلَّ التَّنْوِينُ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ كُسِرَتِ الذَّالُ لِسُكُونِهَا وَسُكُونِ التَّنْوِينِ، وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالْكَسْرِ فَعَلَى إِضَافَةِ الْخِزْيِ إِلَى الْيَوْمِ وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ إِضَافَتِهِ إِلَى الْمَبْنِيِّ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا لِأَنَّ هَذِهِ الْإِضَافَةَ غَيْرُ لَازِمَةٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْخِزْيُ الذُّلُّ الْعَظِيمُ حَتَّى يَبْلُغَ حَدَّ الْفَضِيحَةِ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي الْمُحَارِبِينَ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا [الْمَائِدَةِ: ٣٣] وَإِنَّمَا سَمَّى اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ الْعَذَابَ خِزْيًا لِأَنَّهُ فَضِيحَةٌ بَاقِيَةٌ يَعْتَبِرُ بِهَا أَمْثَالُهُمْ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ وَإِنَّمَا حَسُنَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ أَوْصَلَ ذَلِكَ الْعَذَابَ إِلَى الْكَافِرِ وَصَانَ أَهْلَ الْإِيمَانِ عَنْهُ، وَهَذَا التَّمْيِيزُ لَا يَصِحُّ إِلَّا مِنَ الْقَادِرِ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى قَهْرِ طَبَائِعِ الْأَشْيَاءِ فَيَجْعَلُ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِنْسَانٍ بَلَاءً وَعَذَابًا وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى إِنْسَانٍ آخَرَ رَاحَةً وَرَيْحَانًا ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ ذَلِكَ الْأَمْرَ فَقَالَ: وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنَّمَا قَالَ: أَخَذَ وَلَمْ يَقُلْ أَخَذْتُ لِأَنَّ الصَّيْحَةَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الصِّيَاحِ، وَأَيْضًا فُصِلَ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالِاسْمِ الْمُؤَنَّثِ بِفَاصِلٍ، فَكَانَ الْفَاصِلُ كَالْعِوَضِ مِنْ تَاءِ التَّأْنِيثِ، وَقَدْ سَبَقَ لَهَا نَظَائِرُ.