للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المسألة الثَّانِيَةُ: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِتُبَيِّنَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ تَعَالَى مُعَلَّلَةٌ بِالْأَغْرَاضِ، وَنَظِيرُهُ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا قَوْلُهُ: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ [إِبْرَاهِيمَ: ١] وَقَوْلُهُ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّارِيَاتِ: ٥٦] .

وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ بِالْعَقْلِ امْتِنَاعُ التَّعْلِيلِ وَجَبَ صَرْفُهُ إِلَى التَّأْوِيلِ.

المسألة الثَّالِثَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قوله: هُدىً وَرَحْمَةً مَعْطُوفَانِ عَلَى مَحَلِّ قَوْلِهِ: لِتُبَيِّنَ إِلَّا أَنَّهُمَا انْتَصَبَا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُمَا، لِأَنَّهُمَا فِعْلَا الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ، وَدَخَلَتِ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِتُبَيِّنَ لِأَنَّهُ فِعْلُ الْمُخَاطَبِ لَا فِعْلُ الْمُنْزِلِ، وَإِنَّمَا يَنْتَصِبُ مَفْعُولًا لَهُ مَا كَانَ فِعْلًا لِذَلِكَ الْفَاعِلِ.

المسألة الرَّابِعَةُ: قَالَ الْكَلْبِيُّ: وَصْفُ الْقُرْآنِ بِكَوْنِهِ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، لَا يَنْفِي كَوْنَهُ كَذَلِكَ فِي حَقِّ الْكُلِّ، كَمَا أَنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَةِ: ٢] لَا يَنْفِي كَوْنَهُ هُدًى لِكُلِّ النَّاسِ، كَمَا ذَكَرَهُ فِي قَوْلِهِ: هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ [الْبَقَرَةِ: ١٨٥] وَإِنَّمَا خَصَّ الْمُؤْمِنِينَ بِالذِّكْرِ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُمْ قَبِلُوهُ فَانْتَفَعُوا بِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النَّازِعَاتِ: ٤٥] لِأَنَّهُ إِنَّمَا انْتَفَعَ بِإِنْذَارِهِ هَذَا الْقَوْمُ فَقَطْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

[سورة النحل (١٦) : الآيات ٦٥ الى ٦٧]

وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (٦٦) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها] اعْلَمْ أَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَعْظَمَ مِنْ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ تَقْرِيرُ أُصُولٍ أَرْبَعَةٍ: الْإِلَهِيَّاتِ وَالنُّبُوَّاتِ وَالْمَعَادِ، وَإِثْبَاتِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، وَالْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ الْأُصُولِ الْأَرْبَعَةِ تَقْرِيرُ الْإِلَهِيَّاتِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ كُلَّمَا امْتَدَّ الْكَلَامُ فِي فَصْلٍ مِنَ الْفُصُولِ فِي وَعِيدِ الْكُفَّارِ عَادَ إِلَى تَقْرِيرِ الْإِلَهِيَّاتِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَرَادَ ذِكْرَ دَلَائِلِ الْإِلَهِيَّاتِ ابْتَدَأَ بِالْأَجْرَامِ الْفَلَكِيَّةِ، وَثَنَّى بِالْإِنْسَانِ، وَثَلَّثَ بِالْحَيَوَانِ، وَرَبَّعَ بِالنَّبَاتِ، وَخَمَّسَ بِذِكْرِ أَحْوَالِ الْبَحْرِ وَالْأَرْضِ، فَهَهُنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَمَّا عَادَ إِلَى تَقْرِيرِ دَلَائِلِ الْإِلَهِيَّاتِ بَدَأَ أَوَّلًا بِذِكْرِ الْفَلَكِيَّاتِ فَقَالَ: وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ السَّمَاءَ عَلَى وَجْهٍ يَنْزِلُ مِنْهُ الْمَاءُ وَيَصِيرُ ذَلِكَ الْمَاءُ سَبَبًا لِحَيَاةِ الْأَرْضِ، وَالْمُرَادُ بِحَيَاةِ الْأَرْضِ نَبَاتُ الزَّرْعِ وَالشَّجَرِ وَالنَّوْرِ وَالثَّمَرِ بَعْدَ أَنْ كَانَ لَا يُثْمِرُ، وَيَنْفَعُ بَعْدَ أَنْ كَانَ لَا يَنْفَعُ، وَتَقْرِيرُ هَذِهِ الدَّلَائِلِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ مِرَارًا كَثِيرَةً.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ سَمَاعَ إِنْصَافٍ وَتَدَبُّرٍ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ بِقَلْبِهِ فكأنه أصم لم يسمع.

[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ إلى قوله سائِغاً لِلشَّارِبِينَ] وَالنوع الثَّانِي: مِنَ الدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الِاسْتِدْلَالُ بِعَجَائِبِ أَحْوَالِ الْحَيَوَانَاتِ وَهُوَ قَوْلُهُ:

وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ قَدْ ذَكَرْنَا مَعْنَى الْعِبْرَةِ فِي قَوْلِهِ: لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ [آلِ عِمْرَانَ: ١٣] وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: نُسْقِيكُمْ بِضَمِّ النُّونِ، وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ،

<<  <  ج: ص:  >  >>