للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مِثْلَ أَجْرَبَ، أَيْ صَارَ ذَا جَرَبٍ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ ذَوُو فَرَطٍ إِلَى النَّارِ كَأَنَّهُمْ قَدْ أَرْسَلُوا مَنْ يُهَيِّئُ لَهُمْ مَوَاضِعَ فِيهَا.

وَأَمَّا قِرَاءَةُ قَوْلِهِ: مُفْرَطُونَ بِفَتْحِ الرَّاءِ فَفِيهِ قَوْلَانِ:

القول الأول: المعنى: أنهم متروكون فِي النَّارِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: يُقَالُ مَا أَفْرَطْتُ مِنَ الْقَوْمِ أَحَدًا، أَيْ مَا تَرَكْتُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: تَقُولُ الْعَرَبُ أَفْرَطْتُ مِنْهُمْ نَاسًا، أَيْ خَلَّفْتُهُمْ وَأُنْسِيتُهُمْ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: مُفْرَطُونَ أَيْ مُعَجَّلُونَ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهُوَ الِاخْتِيَارُ وَوَجْهُهُ مَا قَالَ أَبُو زَيْدٍ وَغَيْرُهُ: فَرَطَ الرَّجُلُ أَصْحَابَهُ يَفْرُطُهُمْ فَرَطًا وَفُرُوطًا إِذَا تَقَدَّمَهُمْ إِلَى الْمَاءِ لِيُصْلِحَ الدِّلَاءَ وَالْأَرْسَانَ، وَأَفْرَطَ الْقَوْمُ الْفَارِطَ، وَفَرَّطُوهُ إِذَا قَدَّمُوهُ فَمَعْنَى قَوْلِهِ: مُفْرَطُونَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ كَأَنَّهُمْ قُدِّمُوا إِلَى النَّارِ فَهُمْ فِيهَا فَرَطٌ لِلَّذِينِ يَدْخُلُونَ بَعْدَهُمْ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا الصُّنْعِ الَّذِي يَصْدُرُ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ قَدْ صَدَرَ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ السَّابِقِينَ فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَقَالَ: تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَهَذَا يَجْرِي مَجْرَى التَّسْلِيَةِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا كَانَ يَنَالُهُ مِنَ الْغَمِّ بِسَبَبِ جَهَالَاتِ الْقَوْمِ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْمُجْبِرَةِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ خَالِقُ أَعْمَالِهِمْ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّزْيِينِ. وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ التَّزْيِينَ لَمَّا كَانَ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَجُزْ ذَمُّ الشَّيْطَانِ بِسَبَبِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ التَّزْيِينَ هُوَ الَّذِي يَدْعُو الْإِنْسَانَ إِلَى الْفِعْلِ، وَإِذَا كَانَ حُصُولُ الْفِعْلِ فِيهِ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ ضَرُورِيًّا فَلَمْ يَكُنِ التَّزْيِينُ دَاعِيًا. وَالرَّابِعُ: أَنَّ عَلَى قَوْلِهِمْ، الْخَالِقُ لِذَلِكَ الْعَمَلِ، أَجْدَرُ أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا لَهُمْ مِنَ الدَّاعِي إِلَيْهِ.

وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ التَّزْيِينَ إِلَى الشَّيْطَانِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْمُزَيِّنُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى لَكَانَتْ إِضَافَتُهُ إِلَى الشَّيْطَانِ كَذِبًا.

وَجَوَابُهُ: إِنْ كَانَ مُزَيِّنُ الْقَبَائِحِ فِي أَعْيُنِ الْكُفَّارِ هُوَ الشَّيْطَانُ، فَمُزَيِّنُ تِلْكَ الْوَسَاوِسِ فِي عَيْنِ/ الشَّيْطَانِ إِنْ كَانَ شَيْطَانًا آخَرَ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ. وَإِنْ كَانَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ الْمَطْلُوبُ.

ثم قال تَعَالَى: فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَفِيهِ احْتِمَالَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ كُفَّارُ مَكَّةَ وَبِقَوْلِهِ: فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ أَيِ الشَّيْطَانُ وَيَتَوَلَّى إِغْوَاءَهُمْ وَصَرْفَهُمْ عَنْكَ، كَمَا فَعَلَ بِكُفَّارِ الْأُمَمِ قَبْلَكَ فَيَكُونُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ رَجَعَ عَنْ أَخْبَارِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ إِلَى الْأَخْبَارِ عَنْ كُفَّارِ مَكَّةَ. الثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ بِالْيَوْمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ فَهُوَ وَلِيُّ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا يُزَيِّنُ لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَطْلَقَ اسْمَ الْيَوْمِ عَلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِشُهْرَةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ: فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ هُوَ أَنَّهُ لَا وَلِيَّ لَهُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَلَا نَاصِرَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ إِذَا عَايَنُوا الْعَذَابَ وَقَدْ نَزَلَ بِالشَّيْطَانِ كَنُزُولِهِ بِهِمْ، وَرَأَوْا أَنَّهُ لَا مُخَلِّصَ لَهُ مِنْهُ، كَمَا لَا مُخَلِّصَ لَهُمْ مِنْهُ، جَازَ أَنْ يُوَبَّخُوا بِأَنْ يُقَالَ لَهُمْ: هَذَا وَلِيُّكُمُ الْيَوْمَ عَلَى وَجْهِ السُّخْرِيَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أن مع هذا الوعيد الشديد قد أَقَامَ الْحُجَّةَ وَأَزَاحَ الْعِلَّةَ فَقَالَ: وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَفِيهِ مَسَائِلُ:

المسألة الْأُولَى: الْمَعْنَى: أَنَّا مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمْ بِوَاسِطَةِ بَيَانَاتِ هَذَا الْقُرْآنِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي اخْتَلَفُوا فِيهَا، وَالْمُخْتَلِفُونَ هُمْ أَهْلُ الْمِلَلِ وَالْأَهْوَاءِ، وَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، هُوَ الدِّينُ مِثْلَ التَّوْحِيدِ وَالشِّرْكِ وَالْجَبْرِ وَالْقَدَرِ، وَإِثْبَاتِ الْمَعَادِ وَنَفْيِهِ، وَمِثْلَ الْأَحْكَامِ، مِثْلَ أَنَّهُمْ حَرَّمُوا أَشْيَاءَ تَحِلُّ كَالْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَغَيْرِهِمَا وَحَلَّلُوا أَشْيَاءَ تَحْرُمُ كَالْمَيْتَةِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>