فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ وَهَذَا تَهْدِيدٌ عَظِيمٌ وَوَعِيدٌ شَدِيدٌ فِي حَقِّ مَنْ خَالَفَ فِي هَذَا التَّكْلِيفِ وَأَعْرَضَ فِيهِ عَنْ حُكْمِ اللَّه، وَبَيَانِهِ، يَعْنِي أَنَّكُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَالْحُجَّةُ قَدْ قَامَتْ عَلَيْكُمْ وَالرَّسُولُ قَدْ خَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ التَّبْلِيغِ وَالْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ، فَأَمَّا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ عِقَابِ مَنْ خَالَفَ هَذَا التَّكْلِيفَ وَأَعْرَضَ عَنْهُ فَذَاكَ إِلَى اللَّه تَعَالَى، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ، فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّمَانِيَةِ دَلِيلًا قَاهِرًا وَبُرْهَانًا بَاهِرًا فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ أَنْصَفَ وَتَرَكَ الِاعْتِسَافَ عَلِمَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ قَوْلُهُ إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ [المائدة: ٩١] قَالَ بَعْدَهُ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ فَرَتَّبَ النَّهْيَ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ عَلَى كَوْنِ الْخَمْرِ مُشْتَمِلَةً عَلَى تِلْكَ الْمَفَاسِدِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ فِي بَدَائِهِ الْعُقُولِ أَنَّ تِلْكَ الْمَفَاسِدَ إِنَّمَا تَوَلَّدَتْ مِنْ كَوْنِهَا مُؤَثِّرَةً فِي السُّكْرِ وَهَذَا يُفِيدُ الْقَطْعَ بِأَنَّ عِلَّةَ قَوْلِهِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ هِيَ كَوْنُ الْخَمْرِ مُؤَثِّرًا فِي الْإِسْكَارِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَمَنْ أَحَاطَ عَقْلُهُ بِهَذَا التَّقْدِيرِ وَبَقِيَ مُصِرًّا عَلَى قَوْلِهِ فَلَيْسَ لِعِنَادِهِ عِلَاجٌ، واللَّه أَعْلَمُ.
[[سورة المائدة (٥) : آية ٩٣]]
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (٩٣)
وفي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ قَالَتِ الصَّحَابَةُ: إِنَّ إِخْوَانَنَا كَانُوا قَدْ شَرِبُوا الْخَمْرَ يَوْمَ أُحُدٍ ثُمَّ قُتِلُوا فَكَيْفَ حَالُهُمْ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَالْمَعْنَى: لَا إِثْمَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ شَرِبُوهَا حَالَ مَا كَانَتْ مُحَلَّلَةً، وَهَذِهِ الْآيَةُ مُشَابِهَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي نَسْخِ الْقِبْلَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [الْبَقَرَةِ: ١٤٣] أَيْ أَنَّكُمْ حِينَ اسْتَقْبَلْتُمْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَقَدِ اسْتَقْبَلْتُمُوهُ بِأَمْرِي فَلَا أُضِيعُ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ:
فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى [آلِ عِمْرَانَ: ١٩٥] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الطَّعَامُ فِي الْأَغْلَبِ مِنَ اللُّغَةِ خِلَافُ الشَّرَابِ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الطُّعْمُ خِلَافَ الشُّرْبِ، إِلَّا أَنَّ اسْمَ الطَّعَامِ قَدْ يَقَعُ عَلَى الْمَشْرُوبَاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي [الْبَقَرَةِ: ٢٤٩] وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا أَيْ شَرِبُوا الْخَمْرَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الطُّعْمِ رَاجِعًا إِلَى التَّلَذُّذِ بِمَا يُؤْكَلُ وَيُشْرَبُ، وَقَدْ تَقُولُ الْعَرَبُ: تَطَعَّمْ تَطْعَمْ أَيْ ذُقْ حَتَّى تَشْتَهِيَ وَإِذَا كَانَ مَعْنَى الْكَلِمَةِ رَاجِعًا إِلَى الذَّوْقِ صَلُحَ لِلْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ مَعًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: زَعَمَ بَعْضُ الْجُهَّالِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي الْخَمْرِ أنها محرمة عند ما تَكُونُ مُوقِعَةً لِلْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَصَادَّةً عَنْ ذِكْرِ اللَّه وَعَنِ الصَّلَاةِ، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ طَعِمَهَا إِذَا لَمْ يَحْصُلْ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْمَفَاسِدِ، بَلْ حَصَلَ مَعَهُ أَنْوَاعُ الْمَصَالِحِ مِنَ الطَّاعَةِ وَالتَّقْوَى، وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلْقِ. قَالُوا: وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى أَحْوَالِ مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ التَّحْرِيمِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ لَقَالَ: مَا كَانَ جُنَاحٌ عَلَى الَّذِينَ طَعِمُوا، كَمَا ذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي آيَةِ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ فَقَالَ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [الْبَقَرَةِ: ١٤٣] وَلَكِنَّهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute