للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْإِهْلَاكِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [القمر: ١٢] أَيْ أَمْرِ الْإِهْلَاكِ وَلَمْ يُصَرِّحْ وَعِنْدَ الرَّحْمَةِ ذكر الإنجاء صَرِيحًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَحَمَلْناهُ وَأَشَارَ إِلَى طَرِيقِ النَّجَاةِ بِقَوْلِهِ: ذاتِ أَلْواحٍ وَكَذَلِكَ قَالَ فِي موضع آخر:

فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ [العنكبوت: ١٤] ، وَلَمْ يَقُلْ فَأُهْلِكُوا، وَقَالَ: فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ [العنكبوت:

١٥] فَصَرَّحَ بِالْإِنْجَاءِ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالْإِهْلَاكِ إِشَارَةً إِلَى سَعَةِ الرَّحْمَةِ وَغَايَةِ الْكَرَمِ أَيْ خَلَقْنَا سَبَبَ الْهَلَاكِ وَلَوْ رَجَعُوا لَمَا ضَرَّهُمْ ذَلِكَ السَّبَبُ كما قال صلى الله عليه وسلم: يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا [هُودٍ: ٤٢] وَعِنْدَ الْإِنْجَاءِ أَنْجَاهُ وَجَعَلَ لِلنَّجَاةِ طَرِيقًا وَهُوَ اتِّخَاذُ السَّفِينَةِ وَلَوِ انْكَسَرَتْ لَمَا ضَرَّهُ بَلْ كَانَ يُنْجِيهِ فَالْمَقْصُودُ عِنْدَ الْإِنْجَاءِ هُوَ النَّجَاةُ فَذَكَرَ الْمَحَلَّ وَالْمَقْصُودُ عِنْدَ الْإِهْلَاكِ إِظْهَارُ الْبَأْسِ فَذَكَرَ السَّبَبَ صَرِيحًا.

الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: تَجْرِي بِأَعْيُنِنا أَبْلَغُ مِنْ حِفْظِنَا، يَقُولُ الْقَائِلُ اجْعَلْ هَذَا نُصْبَ عَيْنِكَ وَلَا يَقُولُ احْفَظْهُ طَلَبًا لِلْمُبَالَغَةِ.

الْخَامِسَةُ: بِأَعْيُنِنا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِحِفْظِنَا، وَلِهَذَا يُقَالُ: الرُّؤْيَةُ لِسَانُ الْعَيْنِ.

السَّادِسَةُ: قَالَ: كَانَ ذَلِكَ جَزَاءً عَلَى مَا كَفَرُوا بِهِ لَا عَلَى إِيمَانِهِ وَشُكْرِهِ فَمَا جُوزِيَ بِهِ كَانَ جَزَاءَ صَبْرِهِ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَأَمَّا جَزَاءُ شُكْرِهِ لَنَا فَبَاقٍ، وَقُرِئَ: جِزَاءً بِكَسْرِ الْجِيمِ أَيْ مُجَازَاةً كَقِتَالٍ/ وَمُقَاتَلَةٍ وَقُرِئَ: لِمَنْ كَانَ كَفَرَ بِفَتْحِ الْكَافِ، وَأَمَّا: كُفِرَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ كُفِرَ مِثْلَ شُكِرَ يُعَدَّى بِالْحَرْفِ وَبِغَيْرِ حَرْفٍ يُقَالُ شَكَرْتُهُ وَشَكَرْتُ لَهُ، قَالَ تَعَالَى: وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [الْبَقَرَةِ: ١٥٢] وَقَالَ تَعَالَى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ [الْبَقَرَةِ: ٢٥٦] . ثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ مِنَ الْكُفْرِ لَا مِنَ الْكُفْرَانِ أَيْ جَزَاءً لِمَنْ سُتِرَ أَمْرُهُ وَأُنْكِرَ شَأْنُهُ وَيُحْتَمَلُ أن يقال: كفر به وترك الظهور المراد. ثم قال تعالى:

[[سورة القمر (٥٤) : آية ١٥]]

وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥)

وَفِي الْعَائِدِ إِلَيْهِ الضَّمِيرُ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: عَائِدٌ إِلَى مَذْكُورٍ وَهُوَ السَّفِينَةُ الَّتِي فِيهَا أَلْوَاحٌ وَعَلَى هَذَا فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: تَرَكَ اللَّهُ عَيْنَهَا مُدَّةً حَتَّى رُؤِيَتْ وَعُلِمَتْ وَكَانَتْ عَلَى الْجُودِيِّ بِالْجَزِيرَةِ وَقِيلَ بِأَرْضِ الْهِنْدِ وَثَانِيهِمَا: تُرِكَ مَثَلُهَا فِي النَّاسِ يُذْكَرُ وَثَانِي: الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلِينَ أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ أَيْ تَرَكْنَا السَّفِينَةَ آيَةً، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: تَرَكْناها أَيْ جَعَلْنَاهَا آيَةً لِأَنَّهَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا صَارَتْ مَتْرُوكَةً وَمَجْعُولَةً يَقُولُ الْقَائِلُ:

تَرَكْتُ فُلَانًا مَثُلَةً أَيْ جَعَلْتُهُ، لَمَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ مِنْ فَرَغَ مِنْ أَمْرٍ تَرَكَهُ وَجَعَلَهُ فَذَكَرَ أَحَدَ الْفِعْلَيْنِ بَدَلًا عَنِ الْآخَرِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ مِنْ جَانِبِ الرُّسُلِ قَدْ تَمَّ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا جَانِبُ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ بِأَنْ كَانُوا مُنْذَرِينَ مُتَفَكِّرِينَ يَهْتَدُونَ بِفَضْلِ اللَّهِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ مُهْتَدٍ، وَهَذَا الْكَلَامُ يَصْلُحُ حَثًّا وَيَصْلُحُ تَخْوِيفًا وَزَجْرًا، وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْأُولَى: قَالَ هَاهُنَا وَلَقَدْ تَرَكْناها وَقَالَ فِي الْعَنْكَبُوتِ: وَجَعَلْناها آيَةً [الْعَنْكَبُوتِ: ١٥] قُلْنَا هُمَا وَإِنْ كَانَا فِي الْمَعْنَى وَاحِدًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ لَكِنَّ لَفْظَ التَّرْكِ يَدُلُّ عَلَى الْجَعْلِ وَالْفَرَاغِ بِالْأَيَّامِ فَكَأَنَّهَا هُنَا مَذْكُورَةٌ بِالتَّفْصِيلِ حَيْثُ بَيَّنَ الْإِمْطَارَ مِنَ السَّمَاءِ وَتَفْجِيرَ الْأَرْضِ وَذَكَرَ السَّفِينَةَ بِقَوْلِهِ: ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ [القمر: ١٣] وَذَكَرَ جَرْيَهَا فَقَالَ: تَرَكْناها إِشَارَةً إِلَى تَمَامِ الْفِعْلِ الْمَقْدُورِ وَقَالَ هُنَاكَ وَجَعَلْناها إِشَارَةً إِلَى بَعْضِ ذَلِكَ فَإِنْ قِيلَ: إِنْ كَانَ الْأَمْرُ كذلك فكيف قال هاهنا وَحَمَلْناهُ [القمر: ١٣] وَلَمْ يَقُلْ: وَأَصْحَابَهُ وَقَالَ هُنَاكَ فَأَنْجَيْناهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>