للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى الْمُمْكِنَاتِ فَلَوْ قَدَّرْنَا قَادِرًا آخَرَ قَدَرَ عَلَى بَعْضِ الْمُمْكِنَاتِ، لَزِمَ وُقُوعُ مَقْدُورٍ وَاحِدٍ بَيْنَ قَادِرَيْنِ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَذَلِكَ مُحَالٌ، لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَقَعَ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ وَهُوَ مُحَالٌ، لِأَنَّهُمَا لَمَّا كَانَا مُسْتَقِلَّيْنِ بِالِاقْتِضَاءِ فَلَيْسَ وُقُوعُهُ بِهَذَا أَوْلَى مِنْ وُقُوعِهِ بِذَاكَ أَوْ بِهِمَا مَعًا، وَهُوَ أَيْضًا مُحَالٌ لِأَنَّهُ يَسْتَغْنِيَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَيَكُونُ مُحْتَاجًا إِلَيْهِمَا مَعًا وَغَنِيًّا عَنْهُمَا مَعًا وَهُوَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ وُقُوعُ مُمْكِنٍ آخَرَ بِسَبَبٍ آخَرَ سِوَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا الْكَلَامُ جَيِّدٌ، لَكِنْ عَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يُثْبِتُ فِي الْوُجُودِ مُؤَثِّرًا سِوَى الْوَاحِدِ، فَهَذَا جملة ما في هذا الباب.

[في قوله تعالى رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي السَّمَاءِ أَنَّهُ بَنَاهَا، بَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ كَيْفَ بَنَاهَا، وَشَرَحَ تِلْكَ الْكَيْفِيَّةَ مِنْ وُجُوهٍ:

أَوَّلُهَا: مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَكَانِ، فَقَالَ تَعَالَى: رَفَعَ سَمْكَها.

وَاعْلَمْ أَنَّ امْتِدَادَ الشَّيْءِ إِذَا أُخِذَ مِنْ أَعْلَاهُ إِلَى أَسْفَلِهِ سُمِّيَ عُمْقًا، وَإِذَا أُخِذَ مِنْ أَسْفَلِهِ إِلَى أَعْلَاهُ سُمِّيَ سَمْكًا، فَالْمُرَادُ بِرَفْعِ سَمْكِهَا شِدَّةُ عُلُوِّهَا حَتَّى ذَكَرُوا أَنَّ مَا بَيْنَ الْأَرْضِ وَبَيْنَهَا مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَ [قَدْ] بَيَّنَ أَصْحَابُ الْهَيْئَةِ مَقَادِيرَ الْأَجْرَامِ الْفَلَكِيَّةِ وَأَبْعَادَ مَا بَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا وَبَيْنَ الْأَرْضِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ: رَفْعُ سَمْكِهَا مِنْ غَيْرِ عَمَدٍ. وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَصِحُّ إِلَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.

الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَسَوَّاها وَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ تَسْوِيَةُ تَأْلِيفِهَا، وَقِيلَ: بَلِ الْمُرَادُ نَفْيُ الشُّقُوقِ عَنْهَا، كَقَوْلِهِ: مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ [الْمُلْكِ: ٣] وَالْقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَالُوا:

فَسَوَّاها عَامٌّ فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِالتَّسْوِيَةِ فِي بعض الأشياء، ثم قال هَذَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ/ السَّمَاءِ كُرَةً، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ كُرَةً لَكَانَ بَعْضُ جَوَانِبِهِ سَطْحًا، وَالْبَعْضُ زَاوِيَةً، وَالْبَعْضُ خَطًّا، وَلَكَانَ بَعْضُ أَجْزَائِهِ أَقْرَبَ إِلَيْنَا، وَالْبَعْضُ أَبْعَدَ، فَلَا تَكُونُ التَّسْوِيَةُ الْحَقِيقَةُ حَاصِلَةً، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُرَةً حَتَّى تَكُونَ التَّسْوِيَةُ الْحَقِيقَةُ حَاصِلَةً، ثُمَّ قَالُوا لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهَا مُحْدَثَةٌ مُفْتَقِرَةٌ إِلَى فَاعِلٍ مُخْتَارٍ، فَأَيُّ ضَرَرٍ فِي الدِّينِ يَنْشَأُ مِنْ كونها كرة؟.

[[سورة النازعات (٧٩) : آية ٢٩]]

وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩)

الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَغْطَشَ قَدْ يَجِيءُ لَازِمًا، يُقَالُ: أَغْطَشَ اللَّيْلُ إِذَا صَارَ مُظْلِمًا وَيَجِيءُ مُتَعَدِّيًا يُقَالُ: أَغَطَشَهُ اللَّهُ إِذَا جَعَلَهُ مُظْلِمًا، وَالْغَطَشُ الظُّلْمَةُ، وَالْأَغْطَشُ شِبْهُ الْأَعْمَشِ، ثُمَّ هَاهُنَا سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّ اللَّيْلَ اسْمٌ لِزَمَانِ الظُّلْمَةِ الْحَاصِلَةِ بِسَبَبِ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَقَوْلُهُ: وَأَغْطَشَ لَيْلَها يَرْجِعُ مَعْنَاهُ إِلَى أَنَّهُ جَعَلَ الْمُظْلِمَ مُظْلِمًا، وَهُوَ بَعِيدٌ وَالْجَوَابُ: مَعْنَاهُ أَنَّ الظُّلْمَةَ الْحَاصِلَةَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ إِنَّمَا حَصَلَتْ بِتَدْبِيرِ اللَّهِ وَتَقْدِيرِهِ: وَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى الْإِشْكَالُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَأَخْرَجَ ضُحاها أَيْ أَخْرَجَ نهارا، وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنِ النَّهَارِ بِالضُّحَى، لِأَنَّ الضُّحَى أَكْمَلُ أَجْزَاءِ النَّهَارِ فِي النُّورِ وَالضَّوْءِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّمَا أَضَافَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِلَى السَّمَاءِ، لِأَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّمَا يَحْدُثَانِ بِسَبَبِ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَطُلُوعِهَا، ثُمَّ غُرُوبُهَا وَطُلُوعُهَا إِنَّمَا يَحْصُلَانِ بِسَبَبِ حَرَكَةِ الْفَلَكِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَضَافَ اللَّيْلَ والنهار إلى

<<  <  ج: ص:  >  >>