للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ذَلِكَ مِنْ عَادَةِ السُّقَّاطِ وَيَدْخُلُ فِيهِ مَنْ يُحَاكِي النَّاسَ بِأَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَأَصْوَاتِهِمْ لِيَضْحَكُوا. وَقَدْ حَكَى الْحَكَمُ بْنُ الْعَاصِ مِشْيَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَفَاهُ عَنِ الْمَدِينَةِ وَلَعَنَهُ وَسَادِسُهَا: قَالَ الْحَسَنُ: الْهُمَزَةُ الَّذِي يَهْمِزُ جَلِيسَهُ يَكْسِرُ عَلَيْهِ عَيْنَهُ وَاللُّمَزَةُ الَّذِي يَذْكُرُ أَخَاهُ بِالسُّوءِ وَيَعِيبُهُ وَسَابِعُهَا: عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ قَالَ: قلت لا بن عَبَّاسٍ: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ مَنْ هَؤُلَاءِ الذين يذمهم الله بالويل فقال: هم المشاؤون بِالنَّمِيمَةِ الْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ النَّاعِتُونَ لِلنَّاسِ بِالْعَيْبِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الْوُجُوهِ مُتَقَارِبَةٌ رَاجِعَةٌ إِلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الطَّعْنُ وَإِظْهَارُ الْعَيْبِ، ثُمَّ هَذَا عَلَى قِسْمَيْنِ فَإِنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْجِدِّ كَمَا يَكُونُ عِنْدَ الْحَسَدِ وَالْحِقْدِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْهَزْلِ كَمَا يَكُونُ عِنْدَ السُّخْرِيَةِ وَالْإِضْحَاكِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْقِسْمَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي أَمْرٍ يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ، وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالصُّورَةِ أَوِ الْمَشْيِ، أَوِ الْجُلُوسِ وَأَنْوَاعُهُ كَثِيرَةٌ وَهِيَ غَيْرُ مَضْبُوطَةٍ، ثُمَّ إِظْهَارُ الْعَيْبِ فِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ قَدْ يَكُونُ لِحَاضِرٍ، وَقَدْ يَكُونُ لِغَائِبٍ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَقَدْ يَكُونُ بِاللَّفْظِ، وَقَدْ يَكُونُ بِإِشَارَةِ الرَّأْسِ وَالْعَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَكُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ تَحْتَ النَّهْيِ وَالزَّجْرِ، إِنَّمَا الْبَحْثُ فِي أَنَّ اللَّفْظَ بِحَسَبِ اللُّغَةِ مَوْضُوعٌ لِمَاذَا، فَمَا كَانَ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا لَهُ كَانَ مَنْهِيًّا بِحَسَبِ اللَّفْظِ، وَمَا لَمْ يَكُنِ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا لَهُ كَانَ دَاخِلًا تَحْتَ النَّهْيِ بِحَسَبِ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ، وَلَمَّا كَانَ الرَّسُولُ أَعْظَمَ النَّاسِ مَنْصِبًا فِي الدِّينِ كَانَ الطَّعْنُ فِيهِ عَظِيمًا عِنْدَ اللَّهِ، فَلَا جَرَمَ قَالَ: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ. ثم قال تعالى:

[[سورة الهمزة (١٠٤) : آية ٢]]

الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (٢)

وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الَّذِي بَدَلٌ مِنْ كُلٍّ أَوْ نَصْبٌ عَلَى ذَمٍّ، وَإِنَّمَا وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذَا الْوَصْفِ لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى السَّبَبِ وَالْعِلَّةِ فِي الْهَمْزِ وَاللَّمْزِ وَهُوَ إِعْجَابُهُ بِمَا جَمَعَ مِنَ الْمَالِ، وَظَنُّهُ أَنَّ الْفَضْلَ فِيهِ لِأَجْلِ ذَلِكَ فَيَسْتَنْقِصُ غَيْرَهُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ عَامِرٍ جَمَّعَ بِالتَّشْدِيدِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ وَالْمَعْنَى فِي جَمَّعَ وَجَمَعَ وَاحِدٌ مُتَقَارِبٌ، وَالْفَرْقُ أَنَّ جَمَعَ بالتشديد يفيد أنه جمعه من هاهنا وهاهنا، وَأَنَّهُ لَمْ يَجْمَعْهُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَلَا فِي يَوْمَيْنِ، وَلَا فِي شَهْرٍ وَلَا فِي شَهْرَيْنِ، يُقَالُ: فُلَانٌ يُجَمِّعُ الْأَمْوَالَ أَيْ يَجْمَعُهَا من هاهنا وهاهنا، وَأَمَّا جَمَعَ بِالتَّخْفِيفِ، فَلَا يُفِيدُ ذَلِكَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: مَالًا فَالتَّنْكِيرُ فِيهِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ: الْمَالُ اسْمٌ لِكُلِّ مَا فِي الدُّنْيَا كَمَا قَالَ: الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا [الْكَهْفِ: ٤٦] فَمَالُ الْإِنْسَانِ الْوَاحِدِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَالِ كُلِّ الدُّنْيَا حَقِيرٌ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَفْتَخِرَ بِذَلِكَ/ الْقَلِيلِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّعْظِيمَ أَيْ مَالٌ بَلَغَ فِي الْخُبْثِ وَالْفَسَادِ أَقْصَى النِّهَايَاتِ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْعَاقِلِ أَنْ يَفْتَخِرَ بِهِ؟ أَمَّا قَوْلُهُ: وَعَدَّدَهُ فَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعُدَّةِ وَهِيَ الذَّخِيرَةُ يُقَالُ: أَعْدَدْتُ الشَّيْءَ لِكَذَا وَعَدَدْتُهُ إِذَا أَمْسَكْتَهُ لَهُ وَجَعَلْتَهُ عُدَّةً وَذَخِيرَةً لِحَوَادِثِ الدَّهْرِ وَثَانِيهَا: عَدَّدَهُ أَيْ أَحْصَاهُ وَجَاءَ التَّشْدِيدُ لِكَثْرَةِ الْمَعْدُودِ كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ يُعَدِّدُ فَضَائِلَ فُلَانٍ، وَلِهَذَا قَالَ السُّدِّيُّ: وَعَدَّدَهُ أَيْ أَحْصَاهُ يَقُولُ: هَذَا لِي وَهَذَا لِي يُلْهِيهِ مَالُهُ بِالنَّهَارِ فَإِذَا جَاءَ اللَّيْلُ كَانَ يُخْفِيهِ وَثَالِثُهَا: عَدَّدَهُ أَيْ كَثَّرَهُ يُقَالُ: فِي بَنِي فُلَانٍ عَدَدٌ أَيْ كَثْرَةٌ، وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ الْأَخِيرَانِ رَاجِعَانِ إِلَى مَعْنَى الْعَدَدِ، وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ إِلَى

<<  <  ج: ص:  >  >>