الْعَالَمِينَ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «ذَرْنِي وَقَوْمِي أَدْعُوهُمْ يَوْمًا فَيَوْمًا» فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ مُبَيِّنًا لَهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ كَانُوا يُرِيدُونَ أَنْ أَجْعَلَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَبًا لِيَزْدَادُوا يَقِينًا فَخَلْقُ السموات وَالْأَرْضِ وَسَائِرِ مَا ذَكَرَ أَعْظَمُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّمَانِيَةِ مِنَ الدَّلَائِلِ على أقسام:
القسم الْأَوَّلُ: فِي تَفْصِيلِ الْقَوْلِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، فَالنَّوْعُ الْأَوَّلُ مِنَ الدَّلَائِلِ: الِاسْتِدْلَالُ/ بِأَحْوَالِ السموات وَقَدْ ذَكَرْنَا طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً [البقرة: ٢٢] ولنذكر هاهنا نَمَطًا آخَرَ مِنَ الْكَلَامِ:
رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْحُسَامِ كَانَ يَقْرَأُ كِتَابَ الْمِجِسْطِيِّ عَلَى عُمَرَ الْأَبْهَرِيِّ، فَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ يَوْمًا: مَا الَّذِي تَقْرَءُونَهُ فَقَالَ: أُفَسِّرُ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها [ق: ٦] فَأَنَا أُفَسِّرُ كَيْفِيَّةَ بُنْيَانِهَا، وَلَقَدْ صَدَقَ الْأَبْهَرِيُّ فِيمَا قَالَ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ أَكْثَرَ تَوَغُّلًا فِي بِحَارِ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ أَكْثَرَ عِلْمًا بِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَظَمَتِهِ فَنَقُولُ: الْكَلَامُ فِي أَحْوَالِ السموات عَلَى الْوَجْهِ الْمُخْتَصَرِ الَّذِي يَلِيقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ مُرَتَّبٌ فِي فُصُولٍ:
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي تَرْتِيبِ الْأَفْلَاكِ
قَالُوا: أَقْرَبُهَا إِلَيْنَا كُرَةُ الْقَمَرِ، وَفَوْقَهَا كُرَةُ عُطَارِدَ، ثُمَّ كُرَةُ الزُّهْرَةِ، ثُمَّ كُرَةُ الشَّمْسِ، ثُمَّ كُرَةُ الْمِرِّيخِ، ثُمَّ كُرَةُ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ كُرَةُ زُحَلَ، ثُمَّ كُرَةُ الثَّوَابِتِ، ثُمَّ الْفَلَكُ الْأَعْظَمُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ أَبْحَاثًا:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: ذَكَرُوا فِي طَرِيقِ مَعْرِفَةِ هَذَا التَّرْتِيبِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ. الْأَوَّلُ: السَّيْرُ، وَذَلِكَ أن الكواكب الأسفل إذا مر بين أبصارنا وبين الكواكب الْأَعْلَى فَإِنَّهُمَا يُبْصَرَانِ كَكَوْكَبٍ وَاحِدٍ، وَيَتَمَيَّزُ السَّائِرُ عَنِ الْمَسْتُورِ بِلَوْنِهِ الْغَالِبِ، كَصُفْرَةِ عُطَارِدٍ، وَبَيَاضِ الزُّهَرَةِ وَحُمْرَةِ الْمِرِّيخِ، وَدُرِّيَّةِ الْمُشْتَرِي، وَكَمَوَدَّةِ زُحَلَ، ثُمَّ إِنَّ الْقُدَمَاءَ وَجَدُوا الْقَمَرَ يَكْسِفُ الْكَوَاكِبَ السِّتَّةَ، وَكَثِيرًا مِنَ الثَّوَابِتِ فِي طَرِيقِهِ فِي مَمَرِّ الْبُرُوجِ، وَكَوْكَبُ عُطَارِدٍ يَكْسِفُ الزُّهَرَةَ، وَالزُّهَرَةُ تَكْسِفُ الْمِرِّيخَ وَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ فَهَذَا الطَّرِيقُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْقَمَرِ تَحْتَ الشَّمْسِ لِانْكِسَافِهَا بِهِ، لَكِنْ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الشَّمْسِ فَوْقَ سَائِرِ الْكَوَاكِبِ أَوْ تَحْتَهَا، لِأَنَّ الشَّمْسَ لَا تَنْكَسِفُ بِشَيْءٍ مِنْهَا لِاضْمِحْلَالِ أَضْوَائِهَا فِي ضَوْءِ الشَّمْسِ، فَسَقَطَ هَذَا الطَّرِيقُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشَّمْسِ. الثَّانِي: اخْتِلَافُ الْمَنْظَرِ فَإِنَّهُ مَحْسُوسٌ لِلْقَمَرِ وعطارد والزهرة، وغير محسوس للمريخ والمشتري وزحل، وَأَمَّا فِي حَقِّ الشَّمْسِ فَقَلِيلٌ جِدًّا، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الشَّمْسُ مُتَوَسِّطَةً بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ، وَهَذَا الطَّرِيقُ بَيِّنٌ جِدًّا لِمَنِ اعْتَبَرَ اخْتِلَافَ مَنْظَرِ الْكَوَاكِبِ، وَشَاهَدَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي حَكَيْنَاهُ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يُمَارِسْهُ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُقَلِّدًا فِيهِ، لَا سِيَّمَا وَأَنَّ أَبَا الرَّيْحَانِ وَهُوَ أُسْتَاذُ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ ذَكَرَ فِي تَلْخِيصِهِ لِفُصُولِ الْفَرْغَانِيِّ أَنَّ اخْتِلَافَ الْمَنْظَرِ لَا يُحَسُّ بِهِ إِلَّا فِي الْقَمَرِ. الثَّالِثُ: قَالَ بَطْلَيْمُوسُ: إِنَّ زُحَلَ وَالْمُشْتَرِيَ وَالْمِرِّيخَ تَبْعُدُ عَنِ الشَّمْسِ فِي جَمِيعِ الْأَبْعَادِ، وَأَمَّا عُطَارِدُ وَالزُّهَرَةُ فَإِنَّهُمَا لَا يَبْعُدَانِ عَنِ الشَّمْسِ بَعْدَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute