للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

غَنِمْتُ فِي غَزَاتِي أَعْطَيْتُكَ، وَثَانِيهَا: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: إِنَّهُ الدُّعَاءُ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: عَافَانَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ، وَبِالْجُمْلَةِ كُلُّ مَا سَكَنَتْ إِلَيْهِ النُّفُوسُ وَأَحَبَّتْهُ مِنْ قَوْلٍ وَعَمِلَ فَهُوَ مَعْرُوفٌ وَكُلُّ مَا أَنْكَرَتْهُ وَكَرِهَتْهُ وَنَفَرَتْ مِنْهُ فَهُوَ مُنْكَرٌ، وَثَالِثُهَا: قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى عَلِّمُوهُمْ مَعَ إِطْعَامِكُمْ وَكُسْوَتِكُمْ إِيَّاهُمْ أَمْرَ دِينِهِمْ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَرَابِعُهَا: قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ/ هُوَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ صَبِيًّا، فَالْوَلِيُّ يُعَرِّفُهُ أَنَّ الْمَالَ مَالُهُ وَهُوَ خَازِنٌ لَهُ، وَأَنَّهُ إِذَا زَالَ صِبَاهُ فَإِنَّهُ يَرُدُّ الْمَالَ إِلَيْهِ، ونظيره هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ [الضُّحَى:

٩] مَعْنَاهُ لَا تُعَاشِرْهُ بِالتَّسَلُّطِ عَلَيْهِ كَمَا تُعَاشِرُ الْعَبِيدَ، وَكَذَا قَوْلُهُ: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً [الْإِسْرَاءِ: ٢٨] وَإِنْ كَانَ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ سَفِيهًا وَعَظَهُ وَنَصَحَهُ وَحَثَّهُ عَلَى الصَّلَاةِ، وَرَغَّبَهُ فِي تَرْكِ التَّبْذِيرِ وَالْإِسْرَافِ، وَعَرَّفَهُ أَنَّ عَاقِبَةَ التَّبْذِيرِ الْفَقْرُ وَالِاحْتِيَاجُ إِلَى الْخَلْقِ إِلَى مَا يُشْبِهُ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْكَلَامِ، وَهَذَا الْوَجْهُ أحسن من سائر الوجوه التي حكيناها.

[[سورة النساء (٤) : آية ٦]]

وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (٦)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ مِنْ قَبْلُ بِدَفْعِ مَالِ الْيَتِيمِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ [النساء: ٢] بَيَّنَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَتَى يُؤْتِيهِمْ أَمْوَالَهُمْ، فَذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ وَشَرَطَ فِي دَفْعِ أَمْوَالِهِمْ إِلَيْهِمْ شَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بُلُوغُ النِّكَاحِ، وَالثَّانِي: إِينَاسُ الرُّشْدِ، وَلَا بُدَّ مِنْ ثُبُوتِهِمَا حَتَّى يَجُوزَ دَفْعُ مَالِهِمْ إِلَيْهِمْ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: تَصَرُّفَاتُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ الْمُمَيِّزِ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ صَحِيحَةٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: غَيْرُ صَحِيحَةٍ، احْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى قَوْلِهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ:

وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا الِابْتِلَاءَ إِنَّمَا يَحْصُلُ قَبْلَ الْبُلُوغِ، وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الِابْتِلَاءِ اخْتِبَارُ حَالِهِ فِي أَنَّهُ هَلْ لَهُ تَصَرُّفٌ صَالِحٌ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَهَذَا الِاخْتِبَارُ إِنَّمَا يَحْصُلُ إِذَا أَذِنَ لَهُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْمَعْنَى نَفْسَ الِاخْتِبَارِ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الِاخْتِبَارِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ، يُقَالُ: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى إِلَّا فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَحُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ إِخْرَاجُ مَا لَوْلَاهُ/ لَدَخَلَ، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَابْتَلُوا الْيَتامى أَمْرٌ لِلْأَوْلِيَاءِ بِأَنْ يَأْذَنُوا لَهُمْ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ قَبْلَ الْبُلُوغِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي صِحَّةَ تَصَرُّفَاتِهِمْ.

أَجَابَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَنْ قَالَ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَابْتَلُوا الْيَتامى الْإِذْنَ لَهُمْ فِي التَّصَرُّفِ حَالَ الصِّغَرِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَإِنَّمَا أَمَرَ بِدَفْعِ الْمَالِ إِلَيْهِمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَإِينَاسِ الرُّشْدِ، وَإِذَا ثَبَتَ بِمُوجِبِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ دَفْعُ الْمَالِ إِلَيْهِ حَالَ الصِّغَرِ، وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ تَصَرُّفُهُ حَالَ الصِّغَرِ، لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا دَلَالَةُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَأَمَّا الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ، فَجَوَابُهُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الِابْتِلَاءِ اخْتِبَارُ عَقْلِهِ وَاسْتِبْرَاءُ حَالِهِ، فِي أَنَّهُ هَلْ لَهُ فَهْمٌ وَعَقْلٌ وَقُدْرَةٌ فِي مَعْرِفَةِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ، وَذَلِكَ إِذَا بَاعَ الْوَلِيَّ وَاشْتَرَى بِحُضُورِ الصَّبِيِّ، ثُمَّ يَسْتَكْشِفُ مِنَ الصَّبِيِّ أَحْوَالَ ذَلِكَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَمَا فِيهِمَا مِنَ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ وَلَا شَكَّ أَنَّ بِهَذَا الْقَدْرِ يَحْصُلُ الِاخْتِبَارُ وَالِابْتِلَاءُ، وَأَيْضًا: هَبْ أَنَّا سَلَّمْنَا أَنَّهُ يَدْفَعُ إِلَيْهِ شَيْئًا لِيَبِيعَ أَوْ يَشْتَرِيَ، فَلِمَ قُلْتَ إِنَّ هَذَا الْقَدْرَ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، بَلْ إِذَا بَاعَ وَاشْتَرَى وَحَصَلَ بِهِ اخْتِبَارُ عَقْلِهِ، فَالْوَلِيُّ بَعْدَ ذَلِكَ يُتَمِّمُ الْبَيْعَ وَذَلِكَ الشِّرَاءَ، وَهَذَا مُحْتَمَلٌ واللَّه أعلم.