للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

السَّماءُ كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ

[المعارج: ٨، ٩] .

والحالة الثَّالِثَةُ: أَنْ تَصِيرَ كَالْهَبَاءِ وَذَلِكَ أَنْ تَتَقَطَّعَ وَتَتَبَدَّدَ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ كَالْعِهْنِ وَهُوَ قَوْلُهُ: / إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا [الْوَاقِعَةِ: ٤- ٦] .

والحالة المسألة الرَّابِعَةُ: أَنْ تُنْسَفَ لِأَنَّهَا مَعَ الْأَحْوَالِ الْمُتَقَدِّمَةِ قَارَّةٌ فِي مَوَاضِعِهَا وَالْأَرْضُ تَحْتَهَا غَيْرُ بَارِزَةٍ فَتُنْسَفُ عَنْهَا بِإِرْسَالِ الرِّيَاحِ عَلَيْهَا وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً [طه: ١٠٥] .

وَالْحَالَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّ الرِّيَاحَ تَرْفَعُهَا عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ فَتُطَيِّرُهَا شُعَاعًا فِي الْهَوَاءِ كَأَنَّهَا غُبَارٌ فَمَنْ نَظَرَ إِلَيْهَا مِنْ بُعْدٍ حَسِبَهَا لِتَكَاثُفِهَا أجساما جامدة وهي الْحَقِيقَةِ مَارَّةٌ إِلَّا أَنَّ مُرُورَهَا بِسَبَبِ مُرُورِ الرياح بها [صيرها] مندكة متفتتة، وهي قوله: تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ [النحل: ٨٨] ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ تِلْكَ الْحَرَكَةَ حَصَلَتْ بِقَهْرِهِ وتسخيره، فقال:

وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ [الطور: ١٠] وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً [الْكَهْفِ: ٤٧] .

الْحَالَةُ السَّادِسَةُ: أَنْ تَصِيرَ سَرَابًا، بِمَعْنَى لَا شَيْءَ، فَمَنْ نَظَرَ إِلَى مَوَاضِعِهَا لَمْ يَجِدْ فِيهَا شَيْئًا، كَمَا أَنَّ مَنْ يَرَى السَّرَابَ مِنْ بُعْدٍ إِذَا جَاءَ الْمَوْضِعَ الَّذِي كَانَ يَرَاهُ فِيهِ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَحْوَالَ الْمَذْكُورَةَ إِلَى هَاهُنَا هِيَ: أَحْوَالٌ عَامَّةٌ، وَمِنْ هاهنا يصف أهوال جهنم وأحوالها.

فأولها: قوله تعالى:

[[سورة النبإ (٧٨) : آية ٢١]]

إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (٢١)

وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ يَعْمُرَ: أَنَّ جَهَنَّمَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى تَعْلِيلِ قِيَامِ السَّاعَةِ، بِأَنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا لِلطَّاغِينَ، كَأَنَّهُ قِيلَ كَانَ كَذَلِكَ لِإِقَامَةِ الْجَزَاءِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَانَتْ مِرْصَادًا، أَيْ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ صَارَتْ، وَهَذَانَ الْقَوْلَانِ نَقَلَهُمَا الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ ذَكَرَهُ الْقَاضِي، فَإِنَّا إِذَا فَسَّرْنَا الْمِرْصَادَ بِالْمُرْتَقِبِ، أَفَادَ ذَلِكَ أَنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ كالمنتظرة لمقدومهم مِنْ قَدِيمِ الزَّمَانِ، وَكَالْمُسْتَدْعِيَةِ وَالطَّالِبَةِ لَهُمْ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْمِرْصَادِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمِرْصَادَ اسْمٌ لِلْمَكَانِ الَّذِي يُرْصَدُ فِيهِ، كَالْمِضْمَارِ اسْمٌ لِلْمَكَانِ الَّذِي يُضْمَرُ فِيهِ الْخَيْلُ، وَالْمِنْهَاجُ اسْمٌ لِلْمَكَانِ الَّذِي يُنْهَجُ فِيهِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِيهِ احْتِمَالَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ خَزَنَةَ جَهَنَّمَ يَرْصُدُونَ الْكُفَّارَ وَالثَّانِي: أَنَّ مَجَازَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَمَرَّهُمْ كَانَ عَلَى جَهَنَّمَ، لِقَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مَرْيَمَ: ٧١] فَخَزَنَةُ الْجَنَّةِ يَسْتَقْبِلُونَ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ جَهَنَّمَ، وَيَرْصُدُونَهُمْ عِنْدَهَا.

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمِرْصَادَ مِفْعَالٌ مِنَ الرَّصْدِ، وَهُوَ التَّرَقُّبُ، بِمَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ يكثر منه، والمفعال من أبنية المبالغة كالمعطار وَالْمِعْمَارِ وَالْمِطْعَانِ، قِيلَ إِنَّهَا تَرْصُدُ أَعْدَاءَ اللَّهِ وَتَشُقُّ عَلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ [الْمُلْكِ: ٨] قِيلَ تَرْصُدُ كُلَّ كَافِرٍ وَمُنَافِقٍ، وَالْقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ. اسْتَدَلُّوا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ [الْفَجْرِ: ١٤] وَلَوْ كَانَ الْمِرْصَادُ نَعْتًا لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ لَمِرْصَادٌ.

<<  <  ج: ص:  >  >>