ثم قال تعالى: مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً
وَالْمَعْنَى أَنَّ مَنِ اسْتَنْكَفَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّه وَاسْتَكْبَرَ عَنْهَا فَإِنَّ اللَّه يَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ أَيْ يَجْمَعُهُمْ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَيْثُ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ شَيْئًا.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ يَحْشُرُ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَنْكِفِينَ الْمُسْتَكْبِرِينَ لَمْ يَذْكُرْ مَا يَفْعَلُ بِهِمْ بَلْ ذَكَرَ أَوَّلًا ثَوَابَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُطِيعِينَ.
فَقَالَ: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ثُمَّ ذَكَرَ آخِرًا عِقَابَ الْمُسْتَنْكِفِينَ الْمُسْتَكْبِرِينَ.
فَقَالَ: وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً وَالْمَعْنَى ظَاهِرٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ ثَوَابَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى عِقَابِ الْمُسْتَنْكِفِينَ لِأَنَّهُمْ إِذَا رَأَوْا أَوَّلًا ثَوَابَ الْمُطِيعِينَ ثُمَّ شَاهَدُوا بَعْدَهُ عِقَابَ أَنْفُسِهِمْ كَانَ ذَلِكَ أَعْظَمَ فِي الحسرة.
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٧٤ الى ١٧٥]
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (١٧٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (١٧٥)
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى: لَمَّا أَوْرَدَ الْحُجَّةَ عَلَى جَمِيعِ الْفِرَقِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْكُفَّارِ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَأَجَابَ عَنْ جَمِيعِ شُبُهَاتِهِمْ عَمَّمَ الْخِطَابَ. وَدَعَا جَمِيعَ النَّاسِ إِلَى الِاعْتِرَافِ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَالْبُرْهَانُ هُوَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ بُرْهَانًا لِأَنَّ حِرْفَتَهُ إِقَامَةُ الْبُرْهَانِ عَلَى تَحْقِيقِ الْحَقِّ وَإِبْطَالِ الْبَاطِلِ، وَالنُّورُ الْمُبِينُ هُوَ/ الْقُرْآنُ، وَسَمَّاهُ نُورًا لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِوُقُوعِ نُورِ الْإِيمَانِ فِي الْقَلْبِ، وَلَمَّا قَرَّرَ عَلَى كُلِّ الْعَالَمِينَ كَوْنَ مُحَمَّدٍ رَسُولًا وَكَوْنَ الْقُرْآنِ كِتَابًا حَقًّا أَمَرَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَتَمَسَّكُوا بِشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَعَدَهُمْ عَلَيْهِ بِالثَّوَابِ فَقَالَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ وَالْمُرَادُ آمَنُوا باللَّه فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ وَأَسْمَائِهِ، وَاعْتَصَمُوا بِهِ أَيْ باللَّه فِي أَنْ يُثَبِّتَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ وَيَصُونَهُمْ عَنْ نَزْغِ الشَّيْطَانِ وَيُدْخِلَهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مستقيما، فَوَعَدَ بِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: الرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ وَالْهِدَايَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الرَّحْمَةُ الْجَنَّةُ، وَالْفَضْلُ مَا يَتَفَضَّلُ بِهِ عَلَيْهِمْ مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً يُرِيدُ دِينًا مُسْتَقِيمًا.
وَأَقُولُ: الرَّحْمَةُ وَالْفَضْلُ مَحْمُولَانِ عَلَى مَا فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْمَنْفَعَةِ وَالتَّعْظِيمِ، وَأَمَّا الْهِدَايَةُ فَالْمُرَادُ مِنْهَا السَّعَادَاتُ الْحَاصِلَةُ بِتَجَلِّي أَنْوَارِ عَالِمِ الْقُدْسِ وَالْكِبْرِيَاءِ فِي الْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ وَهَذَا هُوَ السَّعَادَةُ الرُّوحَانِيَّةُ، وَأَخَّرَ ذِكْرَهَا عَنِ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْبَهْجَةَ الرُّوحَانِيَّةَ أَشْرَفُ من اللذات الجسمانية.
[[سورة النساء (٤) : آية ١٧٦]]
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٧٦)