للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ

وَفِي آيَةٍ أُخْرَى ذُكِرَ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ فَقَالَ: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ [الْحَجِّ: ١٠] والكل حسن متعارف في اللغة.

[[سورة آل عمران (٣) : آية ١٨٣]]

الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٨٣)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ] اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ هِيَ الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ لِلْكُفَّارِ فِي الطَّعْنِ فِي نُبُوَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وتقريرها أنهم قالوا: إن الله عهد إلينا أَنْ لَا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ، وَأَنْتَ يَا مُحَمَّدُ مَا فَعَلْتَ ذَلِكَ/ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَهَذَا بَيَانُ وَجْهِ النَّظْمِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ.

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى:

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وَكَعْبِ بْنِ أَسَدٍ وَمَالِكِ بْنِ الصَّيْفِ، وَوَهْبِ بْنِ يَهُوذَا، وزيد بن التابوب، وَفِنْحَاصَ بْنِ عَازُورَاءَ وَغَيْرِهِمْ، أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ تَزْعُمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ عليك كتاباً، وقد عهد الله إِلَيْنَا فِي التَّوْرَاةِ أَنْ لَا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ، وَيَكُونُ لَهَا دَوِيٌّ خَفِيفٌ، تَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، فَإِنْ جِئْتَنَا بِهَذَا صَدَّقْنَاكَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.

قَالَ عَطَاءٌ: كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَذْبَحُونَ لِلَّهِ، فَيَأْخُذُونَ الثُّرُوبَ وَأَطَايِبَ اللَّحْمِ فَيَضَعُونَهَا فِي وَسَطِ بَيْتٍ، وَالسَّقْفُ مَكْشُوفٌ فَيَقُومُ النَّبِيُّ فِي الْبَيْتِ وَيُنَاجِي رَبَّهُ، وَبَنُو إِسْرَائِيلَ خَارِجُونَ وَاقِفُونَ حَوْلَ الْبَيْتِ فَتَنْزِلُ نَارٌ بَيْضَاءُ لَهَا دَوِيٌّ خَفِيفٌ وَلَا دُخَانَ لَهَا فَتَأْكُلُ كُلَّ ذَلِكَ الْقُرْبَانِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْعُلَمَاءِ فِيمَا ادَّعَاهُ الْيَهُودُ قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ: أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ جَاءَ فِي التَّوْرَاةِ وَلَكِنَّهُ مَعَ شَرْطٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي التَّوْرَاةِ: مَنْ جَاءَكُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ فَلَا تُصَدِّقُوهُ حَتَّى يَأْتِيَكُمْ بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ إِلَّا الْمَسِيحَ وَمُحَمَّدًا عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. فَإِنَّهُمَا إِذَا أَتَيَا فَآمِنُوا بِهِمَا فَإِنَّهُمَا يَأْتِيَانِ بِغَيْرِ قُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ. قَالَ: وَكَانَتْ هَذِهِ الْعَادَةُ بَاقِيَةً إِلَى مَبْعَثِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ الْمَسِيحَ ارْتَفَعَتْ وَزَالَتْ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ ادِّعَاءَ هَذَا الشَّرْطِ كَذِبٌ عَلَى التَّوْرَاةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ حَقًّا لَكَانَتْ مُعْجِزَاتُ كُلِّ الْأَنْبِيَاءِ هَذَا الْقُرْبَانَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنَّ مُعْجِزَاتِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ فِرْعَوْنَ كَانَتْ أَشْيَاءَ سِوَى هَذَا الْقُرْبَانِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ نُزُولَ هَذِهِ النَّارِ وَأَكْلَهَا لِلْقُرْبَانِ مُعْجِزَةٌ فَكَانَتْ هِيَ وَسَائِرُ الْمُعْجِزَاتِ عَلَى السَّوَاءِ، فَلَمْ يَكُنْ فِي تَعْيِينِ هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ وَتَخْصِيصِهَا فَائِدَةٌ، بَلْ لَمَّا ظَهَرَتِ الْمُعْجِزَةُ الْقَاهِرَةُ عَلَى يَدِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَجَبَ الْقَطْعُ بِنُبُوَّتِهِ سَوَاءٌ ظَهَرَتْ هَذِهِ الْمُعْجِزَةُ أَوْ لَمْ تَظْهَرْ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ جَاءَ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ مُدَّعِيَ النُّبُوَّةِ وَإِنْ جَاءَ بِجَمِيعِ الْمُعْجِزَاتِ فَلَا تَقْبَلُوا قَوْلَهُ إِلَّا أَنْ يَجِيءَ بِهَذِهِ الْمُعْجِزَةِ الْمُعَيَّنَةِ، أَوْ يُقَالَ جَاءَ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ مُدَّعِيَ النُّبُوَّةِ يُطَالِبُ بِالْمُعْجِزَةِ سَوَاءٌ كَانَتِ الْمُعْجِزَةُ هِيَ مَجِيءَ النَّارِ، أَوْ شَيْءٌ آخَرُ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَمْ يَكُنِ الْإِتْيَانُ بِسَائِرِ الْمُعْجِزَاتِ دَالًّا عَلَى الصِّدْقِ، وَإِذَا جَازَ الطَّعْنُ فِي سَائِرِ الْمُعْجِزَاتِ جَازَ الطَّعْنُ أَيْضًا فِي هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ الْمُعَيَّنَةِ.

وَأَمَّا الثَّانِي: فَإِنَّهُ يَقْتَضِي تَوْقِيتَ الصِّدْقِ عَلَى ظُهُورِ مُطْلَقِ الْمُعْجِزَةِ، لَا عَلَى ظُهُورِ هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ الْمُعَيَّنَةِ، فَكَانَ اعْتِبَارُ هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ عَبَثًا وَلَغْوًا، فَظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَا سُقُوطُ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بِالْكُلِّيَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.