للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ نَفْيَ الْحَدَثِ لَقَالَ: لَا يمسه إلا المطهرون أَوِ الْمُطَّهَّرُونَ، بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ وَالْهَاءِ، وَالْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ الصَّحِيحَةُ الْمُطَهَّرُونَ مِنَ التَّطْهِيرِ لَا مِنَ الْإِطْهَارِ، وَعَلَى هَذَا يَتَأَيَّدُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ يَقُولُ: هُوَ مِنَ السَّمَاءِ يَنْزِلُ بِهِ الْجِنُّ وَيُلْقِيهِ عَلَيْهِ كَمَا كَانُوا يَقُولُونَ فِي حَقِّ الْكَهَنَةِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَاهِنٌ، فَقَالَ: لَا يَمَسُّهُ الْجِنُّ وَإِنَّمَا يَمَسُّهُ الْمُطَهَّرُونَ الَّذِينَ طُهِّرُوا عَنِ الْخُبْثِ، وَلَا يَكُونُونَ مَحَلًّا لِلْإِفْسَادِ وَالسَّفْكِ، فَلَا يُفْسِدُونَ وَلَا يَسْفِكُونَ، وَغَيْرُهُمْ لَيْسَ بِمُطَهَّرٍ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَيَكُونُ هَذَا رَدًّا عَلَى الْقَائِلِينَ: بِكَوْنِهِ مُفْتَرِيًا، وَبِكَوْنِهِ شَاعِرًا، وَبِكَوْنِهِ مَجْنُونًا بِمَسِّ الْجِنِّ، وَبِكَوْنِهِ كَاهِنًا، وَكُلُّ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ وَالْكُلُّ رُدَّ عليهم بما ذكر اللَّه تعالى هاهنا مِنْ أَوْصَافِ كِتَابِ اللَّه الْعَزِيزِ.

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْلُهُ: تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ مَصْدَرٌ، وَالْقُرْآنُ الَّذِي فِي كِتَابٍ لَيْسَ تَنْزِيلًا إِنَّمَا هُوَ مُنَزَّلٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشُّعَرَاءِ: ١٩٣] نَقُولُ: ذِكْرُ الْمَصْدَرِ وَإِرَادَةُ الْمَفْعُولِ كَثِيرٌ كَمَا قُلْنَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ [لقمان: ١١] فَإِنْ قِيلَ: مَا فَائِدَةُ الْعُدُولِ عَنِ الْحَقِيقَةِ إِلَى الْمَجَازِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ؟ فَنَقُولُ: التَّنْزِيلُ وَالْمُنَزَّلُ كِلَاهُمَا مَفْعُولَانِ وَلَهُمَا تَعَلُّقٌ بِالْفَاعِلِ، لَكِنَّ تَعَلُّقَ الْفَاعِلِ بِالْمَصْدَرِ أَكْثَرُ، وَتَعَلُّقَ الْمَفْعُولِ عِبَارَةٌ عَنِ الْوَصْفِ الْقَائِمِ بِهِ، فَنَقُولُ: هَذَا فِي الْكَلَامِ، فَإِنَّ كَلَامَ اللَّه أَيْضًا وَصْفٌ قَائِمٌ باللَّه عِنْدَنَا، وَإِنَّمَا نَقُولُ: مِنْ حَيْثُ الصِّيغَةُ وَاللَّفْظُ وَلَكَ أَنْ تَنْظُرَ فِي مِثَالٍ آخَرَ لِيَتَيَسَّرَ لَكَ الْأَمْرُ مِنْ غَيْرِ غَلَطٍ وَخَطَأٍ فِي الِاعْتِقَادِ، فَنَقُولُ: فِي الْقُدْرَةِ وَالْمَقْدُورِ تَعَلُّقُ الْقُدْرَةِ بِالْفَاعِلِ أَبْلَغُ مِنْ تَعَلُّقِ الْمَقْدُورِ، فَإِنَّ الْقُدْرَةَ فِي الْقَادِرِ وَالْمَقْدُورُ لَيْسَ فِيهِ، فَإِذَا قَالَ: هَذَا قُدْرَةُ اللَّه تَعَالَى كَانَ لَهُ مِنَ الْعَظَمَةِ مَا لَا يَكُونُ فِي قَوْلِهِ: هَذَا مَقْدُورُ اللَّه، لِأَنَّ عَظَمَةَ الشَّيْءِ بِعَظَمَةِ اللَّه، فَإِذَا جَعَلْتَ الشَّيْءَ قَائِمًا بِالتَّعْظِيمِ غَيْرَ مُبَايِنٍ عَنْهُ كَانَ أَعْظَمَ، وَإِذَا ذَكَرْتَهُ بِلَفْظٍ يُقَالُ مِثْلُهُ فِيمَا لَا يَقُومُ باللَّه وَهُوَ الْمَفْعُولُ بِهِ كَانَ دُونَهُ، فَقَالَ: تَنْزِيلٌ وَلَمْ يقل: منزل، ثم إن هاهنا: بَلَاغَةً أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الْمَفْعُولَ قَدْ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْمَصْدَرُ عَلَى ضِدِّ مَا ذَكَرْنَا، كَمَا فِي قَوْلِهِ: مُدْخَلَ صِدْقٍ [الْإِسْرَاءِ: ٨٠] أَيْ دُخُولَ صِدْقٍ أَوْ إِدْخَالَ صِدْقٍ وَقَالَ تَعَالَى: كُلَّ مُمَزَّقٍ [سَبَأٍ: ٧] أَيْ تَمْزِيقٍ، فَالْمُمَزَّقُ بِمَعْنَى التَّمْزِيقِ، كَالْمُنَزَّلِ بِمَعْنَى التَّنْزِيلِ، وَعَلَى الْعَكْسِ سَوَاءٌ، وَهَذِهِ الْبَلَاغَةُ هِيَ أَنَّ الْفِعْلَ لَا يُرَى، وَالْمَفْعُولَ بِهِ يَصِيرُ مَرْئِيًّا، وَالْمَرْئِيُّ أَقْوَى فِي الْعِلْمِ، فَيُقَالُ: مَزَّقَهُمْ تَمْزِيقًا وَهُوَ فِعْلٌ مَعْلُومٌ لِكُلِّ أَحَدٍ عِلْمًا بَيِّنًا يَبْلُغُ دَرَجَةَ الرُّؤْيَةِ وَيَصِيرُ التَّمَزُّقُ هُنَا كَمَا صَارَ الْمُمَزَّقُ ثَابِتًا مَرْئِيًّا، وَالْكَلَامُ يَخْتَلِفُ بِمَوَاضِعِ الْكَلَامِ، وَيَسْتَخْرِجُ الْمُوَفَّقُ بِتَوْفِيقِ اللَّه، وَقَوْلُهُ: مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أَيْضًا لِتَعْظِيمِ الْقُرْآنِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ يَعْظُمُ بِعَظَمَةِ الْمُتَكَلِّمُ، وَلِهَذَا يُقَالُ لِرَسُولِ الْمَلِكِ هَذَا كَلَامُ الْمَلِكِ أَوْ كَلَامُكَ وَهَذَا كَلَامُ الْمَلِكِ الْأَعْظَمِ أَوْ كَلَامُ الْمَلِكِ الَّذِي دُونَهُ، إِذَا كَانَ الرَّسُولُ رَسُولَ مُلُوكٍ، فَيَعْظُمُ الْكَلَامُ بِقَدْرِ عَظَمَةِ الْمُتَكَلِّمِ، فَإِذَا قَالَ: مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ تَبَيَّنَ مِنْهُ عَظَمَةٌ لَا عَظَمَةَ مِثْلُهَا وَقَدْ بَيَّنَّا تَفْسِيرَ الْعَالَمِ وَمَا فِيهِ مِنَ اللَّطَائِفِ، وَقَوْلُهُ: تَنْزِيلٌ رَدٌّ عَلَى طَائِفَةٍ أُخْرَى، وَهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّهُ فِي كِتَابٍ وَلَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، لَكِنَّ الْمَلَكَ يَأْخُذُ وَيُعَلِّمُ النَّاسَ مِنْ عِنْدِهِ وَلَا/ يَكُونُ مِنَ اللَّه تَعَالَى، وَذَلِكَ أَنَّ طَائِفَةً مِنَ الرَّوَافِضِ يَقُولُونَ: إِنَّ جِبْرَائِيلَ أُنْزِلَ عَلَى عَلِيٍّ، فَنَزَلَ عَلَى مُحَمَّدٍ، فَقَالَ تَعَالَى: هُوَ مِنَ اللَّه لَيْسَ بِاخْتِيَارِ الْمَلَكِ أَيْضًا، وَعِنْدَ هَذَا تَبَيَّنَ الْحَقُّ فَعَادَ إلى توبيخ الكفار. فقال تعالى:

[سورة الواقعة (٥٦) : الآيات ٨١ الى ٨٢]

أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢)

<<  <  ج: ص:  >  >>