مَنْ عَلِمَ أَنَّ الْإِلَهَ مَا حَقِيقَتُهُ اسْتَحَالَ أَنْ يَقُولَ لَهُ وَلَدٌ فَكَانَ قَوْلُهُ: وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِشَارَةً إِلَى هَذِهِ الدَّقِيقَةِ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: قَرَأَ نَافِعٌ وَخَرَقُوا مُشَدَّدَةَ الرَّاءِ. وَالْبَاقُونَ خَرَقُوا خَفِيفَةَ الرَّاءِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ:
الِاخْتِيَارُ التَّخْفِيفُ، لِأَنَّهَا أَكْثَرُ وَالتَّشْدِيدُ لِلْمُبَالَغَةِ وَالتَّكْثِيرِ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَى خَرَقُوا افتعلوا وافتروا. قال وخرقوا واخترقوا وخلقوا واختلفوا، وَافْتَرَوْا وَاحِدٌ. وَقَالَ اللَّيْثُ: يُقَالُ: تَخَرَّقَ الْكَذِبَ وَتَخَلَّقَهُ، وَحَكَى صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : أَنَّهُ سُئِلَ الْحَسَنُ عَنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فَقَالَ: كَلِمَةٌ عَرَبِيَّةٌ كَانَتْ تَقُولُهَا. كَانَ الرَّجُلُ إِذَا كَذَبَ كِذْبَةً فِي نَادِي الْقَوْمِ يَقُولُ لَهُ بَعْضُهُمْ قَدْ خَرَقَهَا، واللَّه أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ خَرَقَ الثَّوْبَ إِذَا شَقَّهُ. أَيْ شَقُّوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ الْآيَةَ فَقَالَ: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ تَنْزِيهٌ للَّه عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَتَعالى فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْعُلُوَّ فِي الْمَكَانِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هَاهُنَا تَنْزِيهُ اللَّه تَعَالَى عَنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الْفَاسِدَةِ، وَالْعُلُوُّ فِي الْمَكَانِ لَا يُفِيدُ هَذَا الْمَعْنَى. فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ هَاهُنَا التَّعَالِي عَنْ كُلِّ اعْتِقَادٍ بَاطِلٍ. وَقَوْلٍ فَاسِدٍ.
فَإِنْ قَالُوا: فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَبْقَى بَيْنَ قَوْلِهِ: «سُبْحَانَهُ» وَبَيْنَ قَوْلِهِ: «وَتَعَالَى» فَرْقٌ.
قُلْنَا: بَلْ يَبْقَى بَيْنَهُمَا فَرْقٌ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ أَنَّ هَذَا الْقَائِلَ يُسَبِّحُهُ وَيُنَزِّهُهُ عَمًّا لَا يَلِيقُ بِهِ وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَتَعالى كَوْنُهُ فِي ذَاتِهِ مُتَعَالِيًا مُتَقَدِّسًا عَنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ سَوَاءٌ سَبَّحَهُ مُسَبِّحٌ أَوْ لَمْ يُسَبِّحْهُ، فَالتَّسْبِيحُ يَرْجِعُ إِلَى أَقْوَالِ الْمُسَبِّحِينَ، وَالتَّعَالِي يَرْجِعُ إِلَى صِفَتِهِ الذَّاتِيَّةِ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُ لِذَاتِهِ لا لغيره.
[[سورة الأنعام (٦) : آية ١٠١]]
بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فَسَادَ قَوْلِ طَوَائِفِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. شَرَعَ فِي إِقَامَةِ الدَّلَائِلِ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ يُثْبِتُ لَهُ الْوَلَدَ فَقَالَ: بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ تَفْسِيرَ قَوْلِهِ: بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ إِلَّا أَنَّا نُشِيرُ هَاهُنَا إِلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ. فَنَقُولُ: الْإِبْدَاعُ عِبَارَةٌ عَنْ تَكْوِينِ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ سَبْقِ مِثَالٍ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ مَنْ أَتَى فِي فَنٍّ مِنَ الْفُنُونِ بِطَرِيقَةٍ لَمْ يَسْبِقْهُ غَيْرُهُ فِيهَا، يُقَالُ: إِنَّهُ أَبْدَعَ فِيهِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ اللَّه تَعَالَى سَلَّمَ لِلنَّصَارَى أَنَّ عِيسَى حَدَثَ مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَلَا نُطْفَةٍ بَلْ إِنَّهُ إِنَّمَا حَدَثَ وَدَخَلَ فِي الْوُجُودِ. لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَخْرَجَهُ إِلَى الْوُجُودِ مِنْ غَيْرِ سَبْقِ الْأَبِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ أَنْ يُقَالَ إِنَّكُمْ إما أن تريدوا بكونه والدا للَّه تَعَالَى أَنَّهُ أَحْدَثَهُ عَلَى سَبِيلِ الْإِبْدَاعِ مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ نُطْفَةٍ وَوَالِدٍ. وَإِمَّا أَنْ تريدوا بكونه ولد اللَّه تَعَالَى كَمَا هُوَ الْمَأْلُوفُ الْمَعْهُودُ مِنْ كَوْنِ الْإِنْسَانِ وَلَدًا لِأَبِيهِ، وَإِمَّا أَنْ تُرِيدُوا بِكَوْنِهِ وَلَدًا للَّه مَفْهُومًا ثَالِثًا مُغَايِرًا لِهَذَيْنِ الْمَفْهُومَيْنِ.
أَمَّا الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ: فَبَاطِلٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ يُحْدِثُ الْحَوَادِثَ فِي مِثْلِ هَذَا العالم الأسفل بناء على أسباب معلومة ووسائط مَخْصُوصَةٍ إِلَّا أَنَّ النَّصَارَى يُسَلِّمُونَ أَنَّ الْعَالَمَ الْأَسْفَلَ مُحْدَثٌ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ