للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يَفْعَلْ ذَلِكَ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الْأَنْفَالِ: ٢٣] . وَثَالِثُهَا: إِنَّمَا حَصَلَ فِي تِلْكَ الْآيَاتِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْمَفَاسِدِ وَرُبَّمَا أَوْجَبَ حُصُولُهَا هَلَاكَهُمْ وَاسْتِئْصَالَهُمْ إِنِ اسْتَمَرُّوا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى التَّكْذِيبِ وَرُبَّمَا كَانَ بَعْضُهَا مُنْتَهِيًا إِلَى حَدِّ الْإِلْجَاءِ الْمُخِلِّ بِالتَّكْلِيفِ، وَرُبَّمَا كَانَتْ كَثْرَتُهَا وَتَعَاقُبُهَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِهَا مُعْجِزَةً، لِأَنَّ الْخَوَارِقَ مَتَى تَوَالَتْ صَارَ انْخِرَاقُ الْعَادَةِ عَادَةً، فَحِينَئِذٍ يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مُعْجِزًا وَكُلُّ ذَلِكَ أُمُورٌ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ عَلَّامُ الْغُيُوبِ فَثَبَتَ أَنَّ عَدَمَ إِسْعَافِهِمْ بِهَذِهِ الْآيَاتِ لَا يَقْدَحُ فِي النُّبُوَّةِ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ فَالْمُرَادُ أَنَّ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ تَتَشَابَهُ أَقْوَالُهُمْ وَأَفْعَالُهُمْ، فَكَمَا أَنَّ قَوْمَ مُوسَى كَانُوا أَبَدًا فِي التَّعَنُّتِ وَاقْتِرَاحِ الْأَبَاطِيلِ، كَقَوْلِهِمْ: لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ [الْبَقَرَةِ: ٦١] وَقَوْلِهِمْ:

اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [الْأَعْرَافِ: ١٣٨] وقولهم: أَتَتَّخِذُنا هُزُواً [الْبَقَرَةِ: ٦٧] وَقَوْلِهِمْ: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النِّسَاءِ: ١٥٣] فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ يَكُونُونَ أَبَدًا فِي الْعِنَادِ وَاللَّجَاجِ وَطَلَبِ الْبَاطِلِ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ فَالْمُرَادُ أَنَّ الْقُرْآنَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ كَمَجِيءِ الشَّجَرَةِ وَكَلَامِ الذِّئْبِ، وَإِشْبَاعِ الْخَلْقِ الْكَثِيرِ مِنَ الطَّعَامِ الْقَلِيلِ، آيَاتٌ قَاهِرَةٌ، وَمُعْجِزَاتٌ بَاهِرَةٌ لِمَنْ كَانَ طَالِبًا لليقين.

[[سورة البقرة (٢) : آية ١١٩]]

إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (١١٩)

اعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا أَصَرُّوا عَلَى الْعِنَادِ وَاللَّجَاجِ الْبَاطِلِ وَاقْتَرَحُوا الْمُعْجِزَاتِ عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَا مَزِيدَ عَلَى مَا فَعَلَهُ فِي مَصَالِحِ دِينِهِمْ مِنْ إِظْهَارِ الْأَدِلَّةِ وَكَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا مَزِيدَ عَلَى مَا فَعَلَهُ الرَّسُولُ فِي بَابِ الْإِبْلَاغِ وَالتَّنْبِيهِ لِكَيْ لَا يَكْثُرَ غَمُّهُ بِسَبَبِ إِصْرَارِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَفِي قَوْلِهِ: بِالْحَقِّ وُجُوهٌ.

أَحَدُهَا: أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْإِرْسَالِ، أَيْ أَرْسَلْنَاكَ إِرْسَالًا بِالْحَقِّ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْبَشِيرِ وَالنَّذِيرِ أَيْ أَنْتَ مُبَشِّرٌ بِالْحَقِّ وَمُنْذِرٌ بِهِ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْحَقِّ الدِّينَ وَالْقُرْآنَ، أَيْ أَرْسَلْنَاكَ بِالْقُرْآنِ حَالَ كَوْنِهِ بَشِيرًا لِمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ بِالثَّوَابِ وَنَذِيرًا لِمَنْ كَفَرَ بِالْعِقَابِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْبَشِيرُ وَالنَّذِيرُ صِفَةً لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ:

إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ بِالْحَقِّ لِتَكُونَ مُبَشِّرًا لِمَنِ اتَّبَعَكَ وَاهْتَدَى بِدِينِكَ وَمُنْذِرًا لِمَنْ كَفَرَ بِكَ وَضَلَّ عَنْ دِينِكَ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ فَفِيهِ قِرَاءَتَانِ:

الْجُمْهُورُ بِرَفْعِ التَّاءِ وَاللَّامِ عَلَى الْخَبَرِ، وَأَمَّا نَافِعٌ فَبِالْجَزْمِ وَفَتْحِ التَّاءِ عَلَى النَّهْيِ.

أَمَّا عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى فَفِي التَّأْوِيلِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّ مَصِيرَهُمْ إلى الجحيم فمعصيتهم لا تضرك ولست بمسؤول عَنْ ذَلِكَ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ [الرَّعْدِ: ٤٠] ، وَقَوْلِهِ: عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ [النُّورِ: ٥٤] . وَالثَّانِي: أَنَّكَ هَادٍ وَلَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، فَلَا تَأْسَفْ وَلَا تَغْتَمَّ لِكُفْرِهِمْ وَمَصِيرِهِمْ إِلَى الْعَذَابِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ [فَاطِرٍ: ٨] . الثَّالِثُ: لَا تَنْظُرْ إِلَى الْمُطِيعِ وَالْعَاصِي فِي الْوَقْتِ، فَإِنَّ الْحَالَ قَدْ يَتَغَيَّرُ فَهُوَ غَيْبٌ فَلَا تَسْأَلْ عَنْهُ، وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ أَحَدًا لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِ غَيْرِهِ وَلَا يُؤَاخَذُ بِمَا اجْتَرَمَهُ سِوَاهُ سَوَاءٌ كَانَ قَرِيبًا أَوْ كَانَ بَعِيدًا.

أَمَّا الْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ فَفِيهَا وَجْهَانِ، الْأَوَّلُ:

رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: لَيْتَ شِعْرِي مَا فَعَلَ أَبَوَايَ؟

فَنُهِيَ عَنِ السُّؤَالِ عن