للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ أَنَّ الِافْتِرَاءَ عَلَى اللَّهِ وَمُخَالَفَةَ أَمْرِ اللَّهِ لَا يَمْنَعُهُمْ مِنَ التَّوْبَةِ وَحُصُولِ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ. وَلَفْظُ السُّوءِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا لَا يَنْبَغِي وَهُوَ الْكُفْرُ وَالْمَعَاصِي، وَكُلُّ مَنْ عَمِلَ السُّوءَ فَإِنَّمَا يَفْعَلُهُ بِالْجَهَالَةِ، أَمَّا الْكُفْرُ فَلِأَنَّ أَحَدًا لَا يَرْضَى بِهِ مَعَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ كُفْرًا، فَإِنَّهُ مَا لَمْ يَعْتَقِدْ كَوْنَ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ حَقًّا وَصِدْقًا، فَإِنَّهُ لَا يَخْتَارُهُ وَلَا يَرْتَضِيهِ، وَأَمَّا الْمَعْصِيَةُ فَمَا لَمْ تَصِرِ الشَّهْوَةُ غَالِبَةً لِلْعَقْلِ وَالْعِلْمِ لَمْ تَصْدُرْ عَنْهُ تِلْكَ الْمَعْصِيَةُ، فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَنْ عَمِلَ السُّوءَ فَإِنَّمَا يُقْدِمُ عَلَيْهِ بِسَبِبِ الْجَهَالَةِ، فَقَالَ تَعَالَى: إِنَّا قَدْ بَالَغْنَا فِي تَهْدِيدِ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يُحَلِّلُونَ وَيُحَرِّمُونَ بِمُقْتَضَى الشَّهْوَةِ وَالْفِرْيَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ إِنَّا بَعْدَ ذَلِكَ نَقُولُ: إِنَّ رَبَّكَ فِي حَقِّ الَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِسَبَبِ الْجَهَالَةِ، ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ، أَيْ مِنْ بَعْدِ تِلْكَ السَّيِّئَةِ، وَقِيلَ: مِنْ بَعْدِ تِلْكَ الْجَهَالَةِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ بَعْدَ التَّوْبَةِ عَنْ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ أَصْلَحُوا، أَيْ آمَنُوا وَأَطَاعُوا اللَّهَ.

ثُمَّ أَعَادَ قَوْلَهُ: إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ. ثم قال: لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لِذَلِكَ السُّوءِ الَّذِي صَدَرَ عَنْهُمْ بِسَبَبِ الْجَهَالَةِ، وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ الْإِنْسَانَ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَقْدَمَ عَلَى الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي دَهْرًا دَهِيرًا وَأَمَدًا مَدِيدًا، فَإِذَا تَابَ عَنْهُ وَآمَنَ وَأَتَى بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، يَقْبَلُ توبته ويخلصه من العذاب.

[سورة النحل (١٦) : الآيات ١٢٠ الى ١٢٣]

إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا زَيَّفَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَذَاهِبَ الْمُشْرِكِينَ فِي أَشْيَاءَ، مِنْهَا قَوْلُهُمْ بِإِثْبَاتِ الشُّرَكَاءِ وَالْأَنْدَادِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَمِنْهَا طَعْنُهُمْ فِي نُبُوَّةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَقَوْلُهُمْ لَوْ أَرْسَلَ اللَّهُ رَسُولًا لَكَانَ ذَلِكَ الرَّسُولُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَمِنْهَا قَوْلُهُمْ بِتَحْلِيلِ أَشْيَاءَ حَرَّمَهَا اللَّهُ، وَتَحْرِيمِ أَشْيَاءَ أَبَاحَهَا اللَّهُ تَعَالَى، فَلَمَّا بَالَغَ فِي إِبْطَالِ مَذَاهِبِهِمْ فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَئِيسَ الْمُوَحِّدِينَ وَقُدْوَةَ الْأُصُولِيِّينَ، وَهُوَ الَّذِي دَعَا النَّاسَ إِلَى التَّوْحِيدِ وَإِبْطَالِ الشِّرْكِ وَإِلَى الشَّرَائِعِ. وَالْمُشْرِكُونَ كَانُوا مُفْتَخِرِينَ بِهِ مُعْتَرِفِينَ بِحُسْنِ طَرِيقَتِهِ مُقِرِّينَ بِوُجُوبِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ، لَا جَرَمَ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَحَكَى عَنْهُ طَرِيقَتَهُ فِي التَّوْحِيدِ لِيَصِيرَ ذَلِكَ حَامِلًا لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالتَّوْحِيدِ وَالرُّجُوعِ عَنِ الشِّرْكِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِصِفَاتٍ:

الصِّفَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ كَانَ أُمَّةً، وَفِي تَفْسِيرِهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ كَانَ وَحْدَهُ أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ لِكَمَالِهِ فِي صِفَاتِ الْخَيْرِ كَقَوْلِهِ:

لَيْسَ عَلَى اللَّهِ بِمُسْتَنْكَرٍ ... أَنْ يَجْمَعَ الْعَالَمَ فِي وَاحِدٍ

الثَّانِي: قَالَ مُجَاهِدٌ، كَانَ مُؤْمِنًا وَحْدَهُ، وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ كَانُوا كُفَّارًا فَلِهَذَا الْمَعْنَى كَانَ وَحْدَهُ أُمَّةً

وَكَانَ رَسُولُ

<<  <  ج: ص:  >  >>