الْقَوْلُ الْمَشْهُورُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَرَدَتْ فِي سُؤَالِ الْمَلَكَيْنِ فِي الْقَبْرِ، وَتَلْقِينِ اللَّهِ الْمُؤْمِنَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْقَبْرِ عِنْدَ السُّؤَالِ وَتَثْبِيتِهِ إِيَّاهُ عَلَى الْحَقِّ.
وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ في قوله: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ قَالَ: «حِينَ يُقَالُ لَهُ فِي الْقَبْرِ مَنْ رَبُّكَ وَمَا دِينُكَ وَمِنْ نَبِيُّكَ فَيَقُولُ رَبِّيَ اللَّهُ وَدِينَيَ الْإِسْلَامُ ونبي محمد صلّى الله عليه وسلم،
والمراد من الْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ هُوَ أَنَّ الله تعالى إنما ثبتهم فِي الْقَبْرِ بِسَبَبِ مُوَاظَبَتِهِمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَلِهَذَا الْكَلَامِ تَقْرِيرٌ عَقْلِيٌّ وَهُوَ أَنَّهُ كُلَّمَا كَانَتِ الْمُوَاظَبَةُ عَلَى الْفِعْلِ أَكْثَرَ كَانَ رُسُوخُ تِلْكَ الْحَالَةِ فِي الْعَقْلِ وَالْقَلْبِ أَقْوَى، فَكُلَّمَا كَانَتْ مُوَاظَبَةُ الْعَبْدِ عَلَى ذِكْرِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَعَلَى التَّأَمُّلِ فِي حَقَائِقِهَا وَدَقَائِقِهَا أَكْمَلَ وَأَتَمَّ كَانَ رُسُوخُ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ فِي عَقْلِهِ وَقَلْبِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ أقوى وأكمل. قال ابن عباس: من دوام عَلَى الشَّهَادَةِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا يُثَبِّتُهُ اللَّهُ عَلَيْهَا فِي قَبْرِهِ وَيُلَقِّنُهُ إِيَّاهَا وَإِنَّمَا فَسَّرَ الآخرة هاهنا بِالْقَبْرِ، لِأَنَّ الْمَيِّتَ انْقَطَعَ بِالْمَوْتِ عَنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَدَخَلَ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ وَقَوْلُهُ: وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ يَعْنِي أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا سُئِلُوا فِي قُبُورِهِمْ قَالُوا: لَا نَدْرِي وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ أَضَلَّهُ وَقَوْلُهُ: وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشاءُ يَعْنِي إِنْ شَاءَ هَدَى وَإِنْ شَاءَ أَضَلَّ وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فِي فِعْلِهِ ألبتة.
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٢٨ الى ٣٠]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (٢٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (٣٠)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى عَادَ إِلَى وَصْفِ أَحْوَالِ الْكُفَّارِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً نَزَلَ فِي أَهْلِ مَكَّةَ حَيْثُ أَسْكَنَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى حَرَمَهُ الْآمِنَ وَجَعَلَ عَيْشَهُمْ فِي السَّعَةِ وَبَعَثَ فِيهِمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَعْرِفُوا قَدْرَ هَذِهِ النِّعْمَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ أَنْوَاعًا مِنَ الأعمال القبيحة.
النوع الأول: قوله: بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَّلُوا شُكْرَ نِعْمَةِ اللَّهِ كُفْرًا، لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِمُ الشُّكْرُ بِسَبَبِ تِلْكَ النِّعْمَةِ أَتَوْا بِالْكُفْرِ، فَكَأَنَّهُمْ غَيَّرُوا الشُّكْرَ إِلَى الْكُفْرِ وَبَدَّلُوهُ تَبْدِيلًا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ بَدَّلُوا نَفْسَ نِعْمَةِ اللَّهِ كُفْرًا لِأَنَّهُمْ لَمَّا كَفَرُوا سَلَبَ اللَّهُ تِلْكَ النِّعْمَةَ عَنْهُمْ فَبَقِيَ الْكُفْرُ مَعَهُمْ بَدَلًا مِنَ النِّعْمَةِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِالرَّسُولِ وَالْقُرْآنِ فَاخْتَارُوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ.
وَالنوع الثاني: ما حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ قَوْلُهُ: وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ وَهُوَ الْهَلَاكُ يُقَالُ رَجُلٌ بَائِرٌ وَقَوْمٌ بُورٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً [الْفَتْحِ: ١٢] وَأَرَادَ بِدَارِ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ فَسَّرَهَا بِجَهَنَّمَ فَقَالَ: جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ أَيِ الْمَقَرُّ وَهُوَ مَصْدَرٌ سُمِّيَ بِهِ.
النوع الثَّالِثُ: مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْقَبِيحَةِ قَوْلُهُ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا ذَكَرَ أَنَّهُمْ بَعْدَ أَنْ كَفَرُوا بِاللَّهِ جَعَلُوا لَهُ أَنْدَادًا، وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْجَعْلِ الحكم وَالِاعْتِقَادُ وَالْقَوْلُ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْأَنْدَادِ الْأَشْبَاهُ وَالشُّرَكَاءُ، وَهَذَا الشَّرِيكُ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ جَعَلُوا لِلْأَصْنَامِ حَظًّا فِيمَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ نَحْوُ قَوْلِهِمْ هَذَا لِلَّهِ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا.
وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ شَرِكُوا بَيْنَ الْأَصْنَامِ وَبَيْنَ خَالِقِ الْعَالَمِ فِي الْعُبُودِيَّةِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَرِّحُونَ بِإِثْبَاتِ الشُّرَكَاءِ لِلَّهِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ فِي الْحَجِّ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكٌ هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا ملك.