للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تَعَلَّمَ السِّحْرَ أَوْ تَعَلَّمَ الْعُلُومَ الْكَثِيرَةَ مِنْهُمْ فَقَدَرَ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، كَانَ حَمْلُ الْقُرْآنِ عَلَى السِّحْرِ كَلَامًا فِي غَايَةِ الْفَسَادِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ ترك جوابه.

[[سورة يونس (١٠) : آية ٣]]

إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ تَعَجَّبُوا مِنَ الْوَحْيِ وَالْبَعْثَةِ وَالرِّسَالَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَزَالَ ذَلِكَ التَّعَجُّبَ بِأَنَّهُ لَا يَبْعُدُ الْبَتَّةَ فِي أَنْ يَبْعَثَ خَالِقُ الْخَلْقِ إِلَيْهِمْ رَسُولًا يُبَشِّرُهُمْ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بِالثَّوَابِ، وَعَلَى الْأَعْمَالِ الْبَاطِلَةِ الْفَاسِدَةِ بِالْعِقَابِ، كَانَ هَذَا الْجَوَابُ إِنَّمَا يَتِمُّ وَيَكْمُلُ بِإِثْبَاتِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِثْبَاتُ أَنَّ لِهَذَا الْعَالَمِ إِلَهًا قَاهِرًا قَادِرًا نافذا الْحُكْمِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالتَّكْلِيفِ وَالثَّانِي: إِثْبَاتُ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، حَتَّى يَحْصُلَ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ اللَّذَانِ أَخْبَرَ الْأَنْبِيَاءُ عَنْ حُصُولِهِمَا، فَلَا جَرَمَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَحْقِيقِ هَذَيْنِ الْمَطْلُوبَيْنِ.

أَمَّا الْأَوَّلُ: وَهُوَ إِثْبَاتُ الْإِلَهِيَّةِ، فَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ.

وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ إِثْبَاتُ الْمَعَادِ وَالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ فَبِقَوْلِهِ: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا [يُونُسَ:

٤] فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا التَّرْتِيبَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، وَنِهَايَةِ الْكَمَالِ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدْ ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَفِي الْكُتُبِ الْعَقْلِيَّةِ أَنَّ الدَّلِيلَ الدَّالَّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ تَعَالَى، إِمَّا الْإِمْكَانُ وَإِمَّا الْحُدُوثُ وَكِلَاهُمَا إِمَّا فِي الذَّوَاتِ وَإِمَّا فِي الصِّفَاتِ، فَيَكُونُ مَجْمُوعُ الطُّرُقِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ أَرْبَعَةً، وَهِيَ إِمْكَانُ الذَّوَاتِ، وَإِمْكَانُ الصِّفَاتِ، وَحُدُوثُ الذَّوَاتِ، وَحُدُوثُ الصِّفَاتِ وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ مُعْتَبَرَةٌ تَارَةً فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وهو عالم السموات وَالْكَوَاكِبِ، وَتَارَةً فِي الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ، وَالْأَغْلَبُ مِنَ الدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ التَّمَسُّكُ بِإِمْكَانِ الصِّفَاتِ وَحُدُوثِهَا تَارَةً فِي أَحْوَالِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ، وَتَارَةً فِي أَحْوَالِ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ، وَالْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ هُوَ التَّمَسُّكُ بِإِمْكَانِ الْأَجْرَامِ الْعُلْوِيَّةِ فِي مَقَادِيرِهَا وَصِفَاتِهَا، وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ أَجْرَامَ الْأَفْلَاكِ لَا شَكَّ أَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنَ الْأَجْزَاءِ الَّتِي لَا تَتَجَزَّى، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَتْ لَا مَحَالَةَ مُحْتَاجَةً إِلَى الْخَالِقِ وَالْمُقَدِّرِ.

أَمَّا بَيَانُ الْمَقَامِ الْأَوَّلِ: فَهُوَ أَنَّ أَجْرَامَ الْأَفْلَاكِ لَا شَكَّ أَنَّهَا قَابِلَةٌ لِلْقِسْمَةِ الْوَهْمِيَّةِ، وَقَدْ دَلَّلْنَا فِي الْكُتُبِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ قَابِلًا لِلْقِسْمَةِ الْوَهْمِيَّةِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُرَكَّبًا مِنَ الْأَجْزَاءِ وَالْأَبْعَاضِ وَدَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ الَّذِي تَقُولُهُ الْفَلَاسِفَةُ مِنْ أَنَّ الْجِسْمَ قَابِلٌ لِلْقِسْمَةِ، وَلَكِنَّهُ يَكُونُ فِي نَفْسِهِ شَيْئًا وَاحِدًا كَلَامٌ فَاسِدٌ بَاطِلٌ فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ أَجْرَامَ الْأَفْلَاكِ مُرَكَّبَةٌ مِنَ الْأَجْزَاءِ الَّتِي لَا تَتَجَزَّى، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ افْتِقَارُهَا إِلَى خَالِقٍ وَمُقَدِّرٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا لَمَّا تَرَكَّبَتْ فَقَدْ وَقَعَ بَعْضُ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ فِي دَاخِلِ ذَلِكَ الْجِرْمِ، وَبَعْضُهَا حَصَلَتْ عَلَى سَطْحِهَا، وَتِلْكَ الْأَجْزَاءُ مُتَسَاوِيَةٌ فِي الطَّبْعِ وَالْمَاهِيَّةِ وَالْحَقِيقَةِ، وَالْفَلَاسِفَةُ أَقَرُّوا لَنَا بِصِحَّةِ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ حَيْثُ قَالُوا إِنَّهَا بَسَائِطُ، وَيَمْتَنِعُ كَوْنُهَا مُرَكَّبَةً مِنْ أَجْزَاءَ مُخْتَلِفَةِ الطَّبَائِعِ.

وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: حُصُولُ بَعْضِهَا فِي الدَّاخِلِ، وَحُصُولُ بَعْضِهَا فِي الْخَارِجِ، أَمْرٌ مُمْكِنُ الْحُصُولِ جَائِزُ الثُّبُوتِ، يَجُوزُ أَنْ يَنْقَلِبَ الظَّاهِرُ بَاطِنًا، وَالْبَاطِنُ ظَاهِرًا وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَجَبَ افْتِقَارُ هَذِهِ الأجزاء حال

<<  <  ج: ص:  >  >>