للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

جَعَلْنَا قَوْلَهُ: وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ جَارِيًا مَجْرَى التَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ: فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ مَعْنَاهُ:

بِإِظْهَارِ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ وَالْإِعْزَازِ فِي الدُّنْيَا، أَوْ بِإِظْهَارِ أَضْدَادِهَا. وَقَوْلُهُ: وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ معناه: ما يظره فِي الْقِيَامَةِ مِنْ حَالِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ.

ثُمَّ قَالَ: فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَالْمَعْنَى يُعَرِّفُكُمْ أَحْوَالَ أَعْمَالِكُمْ ثُمَّ يُجَازِيكُمْ عَلَيْهَا، لِأَنَّ الْمُجَازَاةَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَحْصُلُ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا بَعْدَ التَّعْرِيفِ. لِيَعْرِفَ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ الَّذِي وَصَلَ إِلَيْهِ عَدْلٌ لَا ظُلْمٌ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الثَّوَابِ كَانَ فَرَحُهُ وَسَعَادَتُهُ أَكْثَرَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِقَابِ كَانَ غَمُّهُ وَخُسْرَانُهُ أَكْثَرَ. وَقَالَ حُكَمَاءُ الْإِسْلَامِ، الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ الْإِشَارَةُ إِلَى الثَّوَابِ الرُّوحَانِيِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا تَحَمَّلَ أَنْوَاعًا مِنَ الْمَشَاقِّ فِي الْأُمُورِ الَّتِي أَمَرَهُ بِهَا مَوْلَاهُ، فَإِذَا عَلِمَ الْعَبْدُ أَنَّ مَوْلَاهُ يَرَى كَوْنَهُ مُتَحَمِّلًا لِتِلْكَ الْمَشَاقِّ، عَظُمَ فَرَحُهُ وَقَوِيَ ابْتِهَاجُهُ بِهَا، وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُ أَلَذَّ مِنَ الْخِلَعِ النَّفِيسَةِ وَالْأَمْوَالِ الْعَظِيمَةِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَالْمُرَادُ مِنْهُ تَعْرِيفُ عِقَابِ الْخِزْيِ وَالْفَضِيحَةِ. وَمِثَالُهُ أَنَّ الْعَبْدَ الَّذِي خَصَّهُ السُّلْطَانُ بِالْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ مِنَ الْإِحْسَانِ إِذَا أَتَى بِأَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْمَعَاصِي، فَإِذَا حَضَرَ ذَلِكَ الْعَبْدُ عِنْدَ ذَلِكَ السُّلْطَانِ وَعَدَّدَ عَلَيْهِ أَنْوَاعَ قَبَائِحِهِ وَفَضَائِحِهِ، قَوِيَ حُزْنُهُ وَعَظُمَ غَمُّهُ وَكَمُلَتْ فَضِيحَتُهُ، وَهَذَا نَوْعٌ مِنَ الْعَذَابِ الرُّوحَانِيِّ، وَرُبَّمَا رَضِيَ الْعَاقِلُ بِأَشَدِّ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ الْجُسْمَانِيِّ حَذَرًا مِنْهُ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ تَعْرِيفُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْعِقَابِ الرُّوحَانِيِّ نَسْأَلُ اللَّهَ الْعِصْمَةَ مِنْهُ وَمِنْ سَائِرِ الْعَذَابِ.

[[سورة التوبة (٩) : آية ١٠٦]]

وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠٦)

[فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَنَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ مُرْجَوْنَ بِغَيْرِ هَمْزٍ وَالْبَاقُونَ بِالْهَمْزِ وَهُمَا لُغَتَانِ. أَرْجَأَتُ الْأَمْرَ وَأَرْجَيْتُهُ بِالْهَمْزِ وَتَرْكِهِ، إِذَا أَخَّرْتَهُ. وَسُمِّيَتِ الْمُرْجِئَةُ بِهَذَا الِاسْمِ لِأَنَّهُمْ لَا يُجْزِمُونَ الْقَوْلَ بِمَغْفِرَةِ التَّائِبِ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُونَهَا إِلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لِأَنَّهُمْ يُؤَخِّرُونَ الْعَمَلَ عَنِ الْإِيمَانِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى قَسَّمَ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنِ الْجِهَادِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ:

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ.

الْقِسْمُ الثَّانِي: التَّائِبُونَ وَهُمُ الْمُرَادُونَ بِقَوْلِهِ: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ وَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ قَبِلَ تَوْبَتَهُمْ.

وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: الَّذِينَ بَقُوا مَوْقُوفِينَ وَهُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقِسْمِ الثَّانِي وَبَيْنَ هَذَا الثَّالِثِ، أو أُولَئِكَ سَارَعُوا إِلَى التَّوْبَةِ وَهَؤُلَاءِ لَمْ يُسَارِعُوا إِلَيْهَا.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَمُرَارَةَ بْنِ الرَّبِيعِ، وَهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ، فَقَالَ كَعْبٌ: أَنَا أَفْرَهُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ جَمَلًا، فَمَتَى شِئْتُ لَحِقْتُ الرَّسُولَ، فَتَأَخَّرَ أَيَّامًا وَأَيِسَ بَعْدَهَا مِنَ اللُّحُوقِ بِهِ فَنَدِمَ عَلَى صَنِيعِهِ وَكَذَلِكَ صَاحِبَاهُ، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ قِيلَ لِكَعْبٍ اعْتَذِرْ إِلَيْهِ مِنْ صَنِيعِكَ، فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ حتى تنزل توبتي، وأما صاحباه فاعتذر إِلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ:

«مَا خَلَّفَكُمَا عَنِّي» فَقَالَا: لَا عُذْرَ لَنَا إِلَّا الْخَطِيئَةُ فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ فَوَقَفَهُمُ الرَّسُولُ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَنَهَى النَّاسَ عَنْ مُجَالَسَتِهِمْ، وَأَمَرَهُمْ بِاعْتِزَالِ نِسَائِهِمْ وَإِرْسَالِهِنَّ إِلَى أَهَالِيهِنَّ، فَجَاءَتِ امْرَأَةُ هِلَالٍ تَسْأَلُ أَنْ تَأْتِيَهُ بِطَعَامٍ فَإِنَّهُ شَيْخٌ كَبِيرٌ، فَأَذِنَ لَهَا فِي ذَلِكَ خَاصَّةً، وَجَاءَ رَسُولٌ مِنَ الشَّامِ إِلَى كَعْبٍ يُرَغِّبُهُ فِي

<<  <  ج: ص:  >  >>