لَهُ الْأَمْرَانِ النَّصْرُ وَالْفَتْحُ، وَصَارَ الْخَلْقُ لَهُ كَالْأَرِقَّاءِ حَتَّى أَعْتَقَهُمْ الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ فَتْحُ خَيْبَرَ، وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى يَدِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ،
رُوِيَ أَنَّهُ اسْتَصْحَبَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَكَانَ يُسَامِيهِ فِي الشَّجَاعَةِ، فَلَمَّا نُصِبَ السُّلَّمُ قَالَ لِخَالِدٍ: أَتَتَقَدَّمُ؟ قَالَ: لَا، فَلَمَّا تَقَدَّمَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَهُ كَمْ صَعِدْتَ؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي لِشِدَّةِ الْخَوْفِ،
وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لِعَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَلَا تُصَارِعَنِي فَقَالَ: أَلَسْتُ صَرَعْتُكَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ لَكِنَّ ذَاكَ قَبْلَ إِسْلَامِي،
وَلَعَلَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا امْتَنَعَ عَنْ مُصَارَعَتِهِ لِيَقَعَ صِيتُهُ فِي الْإِسْلَامِ أَنَّهُ رَجُلٌ يَمْتَنِعُ عَنْهُ عَلِيٌّ، أَوْ كَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ صَرَعْتُكَ حِينَ كُنْتَ كَافِرًا، أَمَّا الْآنَ وَأَنْتَ مُسْلِمٌ فَلَا يَحْسُنُ أَنْ أَصْرَعَكَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ فَتَحَ الطَّائِفَ وَقِصَّتُهُ طَوِيلَةٌ وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: الْمُرَادُ النَّصْرُ عَلَى الْكُفَّارِ، وَفَتْحُ بِلَادِ الشِّرْكِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ وَالْقَوْلُ الْخَامِسُ: أَرَادَ بِالْفَتْحِ مَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الْعُلُومِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: ١١٤] لَكِنَّ حُصُولَ الْعِلْمِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِانْشِرَاحِ الصَّدْرِ وَصَفَاءِ الْقَلْبِ، وَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِنَصْرِ اللَّهِ إِعَانَتَهُ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْخَيْرَاتِ، وَالْفَتْحُ هُوَ انْتِفَاعُ عَالَمِ الْمَعْقُولَاتِ وَالرُّوحَانِيَّاتِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا حَمَلْنَا الْفَتْحَ عَلَى فَتْحِ مَكَّةَ، فَلِلنَّاسِ فِي وَقْتِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ فَتْحَ مَكَّةَ كَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ سَنَةَ عَشْرٍ،
وَرُوِيَ أَنَّهُ عَاشَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ سَبْعِينَ يَوْمًا،
وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ سُورَةَ التَّوْدِيعِ وَالْقَوْلُ الثَّانِيَ: أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَهُوَ وَعْدٌ لِرَسُولِ اللَّهِ أَنْ يَنْصُرَهُ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ، وَأَنْ يَفْتَحَهَا عَلَيْهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ [الْقَصَصِ: ٨٥] وَقَوْلُهُ: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ يَقْتَضِي الِاسْتِقْبَالَ، إِذْ لَا يُقَالُ فِيمَا وَقَعَ: إِذَا جَاءَ وَإِذَا وَقَعَ، وَإِذَا صَحَّ هَذَا الْقَوْلُ صَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُعْجِزَاتِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ خَبَرٌ وُجِدَ مُخْبَرُهُ بَعْدَ حِينٍ مُطَابِقًا لَهُ، وَالْإِخْبَارُ عَنِ الْغَيْبِ مُعْجِزٌ فَإِنْ قِيلَ: لِمَ ذُكِرَ النَّصْرُ مُضَافًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَذُكِرَ الْفَتْحُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ؟ الْجَوَابُ:
الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْمَعْهُودِ السَّابِقِ، فَيَنْصَرِفُ إلى فتح مكة.
[[سورة النصر (١١٠) : آية ٢]]
وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (٢)
فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: (رَأَيْتَ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَبْصَرْتَ، وَأَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ عَلِمْتَ، فَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ أَبْصَرْتَ كَانَ يَدْخُلُونَ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الْحَالِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَرَأَيْتَ النَّاسَ حَالَ دُخُولِهِمْ/ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ عَلِمْتَ كَانَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ مَفْعُولًا ثَانِيًا لَعَلِمْتَ، وَالتَّقْدِيرُ: عَلِمْتَ النَّاسَ دَاخِلِينَ فِي دِينِ اللَّهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ظَاهِرُ لَفْظِ النَّاسِ لِلْعُمُومِ، فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ النَّاسِ كَانُوا قَدْ دَخَلُوا فِي الْوُجُودِ مَعَ أَنَّ الْأَمْرَ مَا كَانَ كَذَلِكَ الْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْإِنْسَانِيَّةِ وَالْعَقْلِ، إِنَّمَا هُوَ الدِّينُ وَالطَّاعَةُ، عَلَى مَا قَالَ: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّارِيَاتِ: ٥٦] فَمَنْ أَعْرَضَ عَنِ الدِّينِ الْحَقِّ وَبَقِيَ عَلَى الْكُفْرِ، فَكَأَنَّهُ لَيْسَ بِإِنْسَانٍ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الأعراف: ١٧٩] وقال: آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ [الْبَقَرَةِ: ١٣]
وَسُئِلَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَنِ النَّاسُ؟ فَقَالَ: نَحْنُ النَّاسُ، وَأَشْيَاعُنَا أَشْبَاهُ النَّاسِ، وَأَعْدَاؤُنَا النَّسْنَاسُ، فَقَبَّلَهُ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَقَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ