للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

شَيْئاً فَرِيًّا

وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ يَفْرَحُونَ بِمَا فَعَلُوا.

الْبَحْثُ الثَّانِي: قُرِئَ آتَوْا بِمَعْنَى أَعْطَوْا، وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِما أُوتُوا.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ أَيْ بِمَنْجَاةٍ مِنْهُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: فَازَ فُلَانٌ إِذَا نَجَا، وَقَالَ الْفَرَّاءُ:

أَيْ بِبُعْدٍ مِنَ الْعَذَابِ، لِأَنَّ الْفَوْزَ مَعْنَاهُ التَّبَاعُدُ مِنَ الْمَكْرُوهِ، وَذَكَرَ ذَلِكَ في قوله: فَقَدْ فازَ ثُمَّ حَقَّقَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَلَا شُبْهَةَ أَنَّ الْآيَةَ وَارِدَةٌ فِي الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّبْرِ عَلَى أَذَاهُمْ.

ثُمَّ قَالَ: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَيْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ مِمَّنْ له ملك السموات وَالْأَرْضِ، فَكَيْفَ يَرْجُو النَّجَاةَ مَنْ كَانَ مُعَذِّبُهُ هذا القادر الغالب.

[[سورة آل عمران (٣) : آية ١٩٠]]

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠)

اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْكَرِيمِ جَذْبُ الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِالْخَلْقِ إِلَى الِاسْتِغْرَاقِ فِي مَعْرِفَةِ الْحَقِّ، فَلَمَّا طَالَ الْكَلَامُ فِي تَقْرِيرِ الْأَحْكَامِ وَالْجَوَابِ عَنْ شُبُهَاتِ الْمُبْطِلِينَ عَادَ إِلَى إِنَارَةِ الْقُلُوبِ بِذِكْرِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْإِلَهِيَّةِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْجَلَالِ، فَذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ.

قَالَ ابْنُ عُمَرَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: أَخْبِرِينِي بِأَعْجَبِ مَا رَأَيْتِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَكَتْ وَأَطَالَتْ ثُمَّ قَالَتْ: كُلُّ أَمْرِهِ عَجَبٌ، أَتَانِي فِي لَيْلَتِي فَدَخَلَ فِي لِحَافِي حَتَّى أَلْصَقَ جِلْدَهُ بِجِلْدِي، / ثُمَّ قَالَ لِي: يَا عَائِشَةُ هَلْ لَكِ أَنْ تَأْذَنِي لِي اللَّيْلَةَ فِي عِبَادَةِ رَبِّي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّ قُرْبَكَ وَأُحِبُّ مُرَادَكَ قَدْ أَذِنْتُ لَكَ. فَقَامَ إِلَى قِرْبَةٍ مِنْ مَاءٍ فِي الْبَيْتِ فَتَوَضَّأَ وَلَمْ يُكْثِرْ مِنْ صَبِّ الْمَاءِ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، فَقَرَأَ مِنَ الْقُرْآنِ وَجَعَلَ يَبْكِي، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَبْكِي حَتَّى رَأَيْتُ دُمُوعَهُ قَدْ بَلَّتِ الْأَرْضَ، فَأَتَاهُ بِلَالٌ يُؤْذِنُهُ بِصَلَاةِ الْغَدَاةِ فَرَآهُ يَبْكِي، فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَبْكِي وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، فَقَالَ: يَا بِلَالُ أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا، ثُمَّ قَالَ: مَا لِي لَا أَبْكِي وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ قَالَ: وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا. وَرُوِيَ: وَيْلٌ لِمَنْ لَاكَهَا بَيْنَ فَكَّيْهِ وَلَمْ يَتَأَمَّلْ فِيهَا.

وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَسَوَّكُ ثُمَّ يَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ وَيَقُولُ: إن في خلق السموات وَالْأَرْضِ.

وَحُكِيَ أَنَّ الرَّجُلَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ إِذَا عَبَدَ اللَّهَ ثَلَاثِينَ سَنَةً أَظَلَّتْهُ سَحَابَةٌ فَعَبَدَهَا فَتًى مِنْ فِتْيَانِهِمْ فَمَا أَظَلَّتْهُ السَّحَابَةُ، فَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: لَعَلَّ فَرْطَةً صَدَرَتْ مِنْكَ فِي مُدَّتِكَ، قَالَ: مَا أَذْكُرُ، قَالَتْ: لَعَلَّكَ نَظَرْتَ مَرَّةً إِلَى السَّمَاءِ وَلَمْ تَعْتَبِرْ قَالَ نَعَمْ، قَالَتْ: فَمَا أُتِيتَ إِلَّا مِنْ ذَلِكَ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَذَكَرَهَا هُنَا أَيْضًا، وَخَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِقَوْلِهِ: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة: ١٦٤] وختمها هاهنا بِقَوْلِهِ: لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ وَذَكَرَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَعَ هَذِهِ الدَّلَائِلِ الثَّلَاثَةِ خَمْسَةَ أَنْوَاعٍ أُخْرَى، حَتَّى كَانَ الْمَجْمُوعُ ثَمَانِيَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الدلائل، وهاهنا اكتفى بذكر هذه الأنواع الثلاثة: وهي السموات وَالْأَرْضُ، وَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، فَهَذِهِ أَسْئِلَةٌ ثَلَاثَةٌ:

السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي إِعَادَةِ الْآيَةِ الْوَاحِدَةِ بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ فِي سُورَتَيْنِ؟

وَالسُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ اكتفى هاهنا بِإِعَادَةِ ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الدَّلَائِلِ وَحَذَفَ الْخَمْسَةَ الْبَاقِيَةَ؟

وَالسُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ قَالَ هُنَاكَ: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة: ١٦٤] وقال هاهنا: لِأُولِي الْأَلْبابِ.

فَأَقُولُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَسْرَارِ كِتَابِهِ: إِنَّ سُوَيْدَاءَ الْبَصِيرَةِ تَجْرِي مَجْرَى سَوَادِ الْبَصَرِ فَكَمَا أَنَّ سَوَادَ الْبَصَرِ لَا يَقْدِرُ