للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْهُدَى وَالضَّلَالَ لَيْسَا إِلَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَالثَّانِي: نَقُولُ هَبْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْهِدَايَةِ وَالضَّلَالِ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا حَصَلَ هَذَا الْحُكْمُ امْتَنَعَ مِنَ الْعَبْدِ صُدُورُ غَيْرِهِ وَإِلَّا لَزِمَ انْقِلَابُ ذَلِكَ الْحُكْمِ كَذِبًا وَالْكَذِبُ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ وَالْمُفْضِي إِلَى المحال فَكَانَ صُدُورُ غَيْرِ ذَلِكَ الْفِعْلِ مِنَ الْعَبْدِ مُحَالًا وَذَلِكَ يُوجِبُ فَسَادَ مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْبَحْثُ الثَّانِي: انْتِصَابُ قَوْلِهِ: وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ بِفِعْلٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَخَذَلَ فَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الَّذِي لِأَجْلِهِ حَقَّتْ عَلَى هَذِهِ الْفِرْقَةِ الضَّلَالَةُ هُوَ إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله فَقَبِلُوا مَا دَعَوْهُمْ إِلَيْهِ وَلَمْ يَتَأَمَّلُوا فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ.

فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَسْتَقِيمُ هَذَا التَّفْصِيلُ مَعَ قَوْلِكُمْ بِأَنَّ الْهُدَى وَالضَّلَالَ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً.

فَنَقُولُ: عِنْدَنَا مَجْمُوعُ الْقُدْرَةِ وَالدَّاعِي يُوجِبُ الْفِعْلَ وَالدَّاعِيَةُ الَّتِي دَعَتْهُمْ إِلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ هِيَ: انهم اتخذوا الشيطان أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ مَا بَيَّنَ لَهُمْ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ وَهَذَا بَعِيدٌ/ بَلْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى عُمُومِهِ فَكُلُّ مَنْ شَرَعَ فِي بَاطِلٍ فَهُوَ يَسْتَحِقُّ الذَّمَّ وَالْعَذَابَ سَوَاءٌ حَسِبَ كَوْنَهُ حَقًّا أَوْ لَمْ يَحْسَبْ ذَلِكَ وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الظَّنِّ وَالْحُسْبَانِ لَا يَكْفِي فِي صِحَّةِ الدِّينِ بَلْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْجَزْمِ وَالْقَطْعِ وَالْيَقِينِ لِأَنَّهُ تَعَالَى عَابَ الْكُفَّارَ بِأَنَّهُمْ يَحْسَبُونَ كَوْنَهُمْ مُهْتَدِينَ وَلَوْلَا أَنَّ هَذَا الْحُسْبَانَ مَذْمُومٌ وَإِلَّا لَمَا ذَمَّهُمْ بِذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٣١ الى ٣٢]

يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢)

[في قوله تعالى يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ] اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالْقِسْطِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْقِسْطِ أَمَرَ اللِّبَاسَ وَأَمَرَ الْمَأْكُولَ وَالْمَشْرُوبَ لَا جَرَمَ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِهِمَا وَأَيْضًا لَمَّا أَمَرَ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ فِي قَوْلِهِ: وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف: ٢٩] وَكَانَ سَتْرُ الْعَوْرَةِ شَرْطًا لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ لَا جَرَمَ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ اللِّبَاسِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً الرِّجَالُ بِالنَّهَارِ وَالنِّسَاءُ بِاللَّيْلِ وَكَانُوا إِذَا وَصَلُوا إِلَى مَسْجِدِ مِنًى طَرَحُوا ثِيَابَهُمْ وَأَتَوُا الْمَسْجِدَ عُرَاةً وَقَالُوا: لَا نَطُوفُ فِي ثِيَابٍ أَصَبْنَا فِيهَا الذُّنُوبَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: نَفْعَلُ ذَلِكَ تَفَاؤُلًا حَتَّى نَتَعَرَّى عَنِ الذُّنُوبِ كَمَا تَعَرَّيْنَا عَنِ الثِّيَابِ وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ مِنْهُمْ تَتَّخِذُ سِتْرًا تُعَلِّقُهُ عَلَى حِقْوَيْهَا لِتَسْتَتِرَ بِهِ عَنِ الْحُمْسِ وَهُمْ قُرَيْشٌ فَإِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَكَانُوا يُصَلُّونَ فِي ثِيَابِهِمْ وَلَا يَأْكُلُونَ مِنَ الطَّعَامِ إِلَّا قُوتًا وَلَا يَأْكُلُونَ دَسَمًا فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَنَحْنُ أَحَقُّ أَنَّ نَفْعَلَ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ أَيْ: «الْبَسُوا ثِيَابَكُمْ وَكُلُوا اللَّحْمَ وَالدَّسَمَ وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا» .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ مِنَ الزِّينَةِ لُبْسُ الثِّيَابِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ [النُّورِ:

٣١] يَعْنِي الثِّيَابَ وَأَيْضًا فَالزِّينَةُ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِالسَّتْرِ التَّامِّ لِلْعَوْرَاتِ وَلِذَلِكَ صَارَ التَّزْيِينُ بِأَجْوَدِ الثِّيَابِ فِي

<<  <  ج: ص:  >  >>