الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا يَعْنِي اعْتَرِفُوا بِمَا هُوَ الْأَصْلُ وَالتَّوْحِيدُ وَلَا حَاجَةَ فِيهِ إِلَى تَفَكُّرٍ وَنَظَرٍ بَعْدَ مَا بَانَ وَظَهَرَ، ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا فِيمَا أَقُولُ بَعْدَهُ مِنَ الرِّسَالَةِ وَالْحَشْرِ، فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى تَفَكُّرٍ، وَكَلِمَةُ ثُمَّ تُفِيدُ مَا ذَكَرْنَا، فَإِنَّهُ قَالَ: أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ ... ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ثُمَّ بَيَّنَ مَا يَتَفَكَّرُونَ فِيهِ وَهُوَ أَمْرُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: مَا بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: مَا بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ يُفِيدُ كَوْنَهُ رَسُولًا وَإِنْ كَانَ لَا يَلْزَمُ فِي كُلِّ مَنْ لَا يَكُونُ بِهِ جِنَّةٌ أَنْ يَكُونَ رَسُولًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَظْهَرُ مِنْهُ أَشْيَاءُ لَا تَكُونُ مَقْدُورَةً لِلْبَشَرِ وَغَيْرُ الْبَشَرِ مِمَّنْ تَظْهَرُ مِنْهُ الْعَجَائِبُ إِمَّا الْجِنُّ أَوِ الْمَلَكُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الصَّادِرُ مِنَ النبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ بِوَاسِطَةِ الْجِنِّ يَكُونُ بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ أَوْ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ، وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الطُّرُقِ، وَهُوَ أَنْ يُثْبِتَ الصِّفَةَ الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ الصِّفَاتِ فِي الْبَشَرِ بِنَفْيِ أَخَسِّ الصِّفَاتِ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ أَوَّلًا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ كَانُوا يَقُولُونَ فِيهِ النِّزَاعُ، فَإِذَا قَالَ مَا هُوَ مَجْنُونٌ لَمْ/ يَسَعْهُمْ إِنْكَارُ ذَلِكَ لِعِلْمِهِمْ بِعُلُوِّ شَأْنِهِ وَحَالِهِ فِي قُوَّةِ لِسَانِهِ وَبَيَانِهِ «١» فَإِذَا سَاعَدُوا عَلَى ذَلِكَ لَزِمَتْهُمُ الْمَسْأَلَةُ. وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ يَعْنِي إِمَّا هُوَ بِهِ جِنَّةٌ أَوْ هُوَ رَسُولٌ لَكِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ بِهِ جَنَّةٌ فَهُوَ نَذِيرٌ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ إِشَارَةٌ إِلَى قُرْبِ الْعَذَابِ كَأَنَّهُ قَالَ يُنْذِرُكُمْ بِعَذَابٍ حَاضِرٍ يَمَسُّكُمْ عَنْ قَرِيبٍ بَيْنَ يَدَيِ الْعَذَابِ أَيْ سَوْفَ يَأْتِي الْعَذَابُ بَعْدَهُ. ثم قال تعالى:
[[سورة سبإ (٣٤) : آية ٤٧]]
قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧)
لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ مَا بِهِ جِنَّةٌ لِيَلْزَمَ مِنْهُ كَوْنُهُ نَبِيًّا ذَكَرَ وَجْهًا آخَرَ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّهُ نَبِيٌّ إِذَا لم يكن مجنونا لأن من يرتكب العناء الشديد لا لغرض عاجل إذا لم يكن ذلك فيه ثواب أخروي يكون مَجْنُونًا، فَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِدَعْوَاهُ النُّبُوَّةَ يَجْعَلُ نَفْسَهُ عُرْضَةً لِلْهَلَاكِ عَاجِلًا، فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَقْصِدُهُ وَيُعَادِيهِ وَلَا يَطْلُبُ أَجْرًا فِي الدُّنْيَا فَهُوَ يَفْعَلُهُ لِلْآخِرَةِ، وَالْكَاذِبُ فِي الْآخِرَةِ مُعَذَّبٌ لَا مُثَابٌ، فَلَوْ كَانَ كَاذِبًا لَكَانَ مَجْنُونًا لَكِنَّهُ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ فَلَيْسَ بِكَاذِبٍ، فَهُوَ نَبِيٌّ صَادِقٌ وَقَوْلُهُ: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ تَقْرِيرٌ آخَرُ لِلرِّسَالَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الرِّسَالَةَ لَا تَثْبُتُ إِلَّا بِالدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةِ، بِأَنْ يَدَّعِيَ شَخْصٌ النُّبُوَّةَ وَيُظْهِرَ اللَّهُ لَهُ الْمُعْجِزَةَ فَهِيَ بَيِّنَةٌ شَاهِدَةٌ وَالتَّصْدِيقُ بِالْفِعْلِ يَقُومُ مَقَامَ التَّصْدِيقِ بِالْقَوْلِ فِي إِفَادَةِ الْعِلْمِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ قَالَ لِقَوْمٍ إِنِّي مُرْسَلٌ مِنْ هَذَا الْمَلِكِ إِلَيْكُمْ أُلْزِمُكُمْ قَبُولَ قَوْلِي وَالْمَلِكُ حَاضِرٌ نَاظِرٌ، ثُمَّ قَالَ لِلْمَلِكِ أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنْ كُنْتُ أَنَا رَسُولَكَ إِلَيْهِمْ فَقُلْ لَهُمْ إِنِّي رَسُولُكَ فَإِذَا قَالَ إِنَّهُ رَسُولِي إِلَيْكُمْ لَا يَبْقَى فِيهِ شَكٌّ كَذَلِكَ إِذَا قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنْ كُنْتُ أَنَا رَسُولَكَ إِلَيْهِمْ فَأَلْبِسْنِي قَبَاءَكَ فَلَوْ أَلْبَسَهُ قَبَاءَهُ فِي عَقِبِ كَلَامِهِ يَجْزِمُ النَّاسُ بِأَنَّهُ رَسُولُهُ، كَذَلِكَ حَالُ الرَّسُولِ إِذَا قَالَ الْأَنْبِيَاءُ لِقَوْمِهِمْ نَحْنُ رُسُلُ اللَّهِ، ثُمَّ قَالُوا يَا إِلَهَنَا إِنْ كُنَّا رُسُلَكَ فَأَنْطِقْ هَذِهِ الْحِجَارَةَ أَوْ أَنْشِرْ هَذَا الْمَيِّتَ فَفَعَلَهُ حصل الجزم بأنه صدقه. ثم قال تعالى:
[[سورة سبإ (٣٤) : آية ٤٨]]
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٤٨)
(١) في النسخة طبعة بولاق: في قوة لسانه وباله ولما كان غير واضحة المعنى فقد أثبتناها هكذا لأن اللازم لقوة اللسان قوة البيان.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute