للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَالْمَعْنَى أَنَّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ أَحْكَامِ الطَّلَاقِ وَالرَّجْعَةِ وَالْخُلْعِ فَلا تَعْتَدُوها أَيْ فَلَا تَتَجَاوَزُوا عَنْهَا، ثُمَّ بَعْدَ هَذَا النَّهْيِ الْمُؤَكَّدِ أَتْبَعَهُ بِالْوَعِيدِ، فَقَالَ: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وَفِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَهُ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هُودٍ: ١٨] فَذَكَرَ الظُّلْمَ هَاهُنَا تَنْبِيهًا عَلَى حُصُولِ اللَّعْنِ وَثَانِيهَا: أَنَّ الظَّالِمَ اسْمُ ذَمٍّ وَتَحْقِيرٍ، فَوُقُوعُ هَذَا الِاسْمِ يَكُونُ جَارِيًا مَجْرَى الْوَعِيدِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ أَطْلَقَ لَفْظَ الظُّلْمِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ ظُلْمٌ مِنَ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ، حَيْثُ أَقْدَمَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَظُلْمٌ أَيْضًا لِلْغَيْرِ بِتَقْدِيرِ أَنْ لَا تُتِمَّ الْمَرْأَةُ عِدَّتَهَا، أَوْ كَتَمَتْ شَيْئًا مِمَّا خُلِقَ فِي رَحِمِهَا، أَوِ الرَّجُلُ تَرَكَ الْإِمْسَاكَ بِالْمَعْرُوفِ وَالتَّسْرِيحَ بِالْإِحْسَانِ، أَوْ أَخَذَ مِنْ جُمْلَةِ مَا آتَاهَا شَيْئًا لَا بِسَبَبِ نُشُوزٍ مِنْ جِهَةِ الْمَرْأَةِ، فَفِي كُلِّ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ يَكُونُ ظَالِمًا لِلْغَيْرِ فَلَوْ أَطْلَقَ لَفْظَ الظَّالِمِ دَلَّ عَلَى كَوْنِهِ ظَالِمًا لنفسه، وظالما لغيره، وفيه أعظم التهديدات.

[[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٠]]

فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٢٣٠)

اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْحُكْمُ الْخَامِسُ مِنْ أَحْكَامِ الطَّلَاقِ، وَهُوَ بَيَانُ أَنَّ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ قَاطِعَةٌ لِحَقِّ الرَّجْعَةِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ قَوْلَهُ: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ [البقرة: ٢٢٩] إِشَارَةٌ إِلَى الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ قَالُوا إِنَّ قَوْلَهُ: فَإِنْ طَلَّقَها تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ، إِلَّا أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ لِلزَّوْجِ مَعَ الْمَرْأَةِ بَعْدَ الطَّلْقَةِ الثَّانِيَةِ أَحْوَالًا ثَلَاثَةً أَحَدُهَا: أَنْ يُرَاجِعَهَا، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ [البقرة: ٢٢٩] وَالثَّانِي: أَنْ لَا يُرَاجِعَهَا بَلْ يَتْرُكَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ وَتَحْصُلَ الْبَيْنُونَةُ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَالثَّالِثُ: أَنْ يُطَلِّقَهَا طَلْقَةً ثَالِثَةً، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ طَلَّقَها فَإِذَا كَانَتِ الْأَقْسَامُ ثَلَاثَةً، وَاللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَلْفَاظًا ثَلَاثَةً وَجَبَ تَنْزِيلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ عَلَى مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ، فَأَمَّا إِنْ جَعَلْنَا قَوْلَهُ: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ عِبَارَةً عَنِ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ كُنَّا قَدْ صَرَفْنَا لَفْظَيْنِ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ عَلَى سَبِيلِ التَّكْرَارِ، وَأَهْمَلْنَا الْقِسْمَ الثَّالِثَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَوَّلَ أَوْلَى.

وَاعْلَمْ أَنَّ وُقُوعَ آيَةِ الْخُلْعِ فِيمَا بَيْنَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ كَالشَّيْءِ الْأَجْنَبِيِّ، وَنَظْمُ الْآيَةِ: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ.

فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ النَّظْمُ الصَّحِيحُ هُوَ هَذَا فَمَا السَّبَبُ فِي إِيقَاعِ آيَةِ الْخُلْعِ فِيمَا بَيْنَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ؟.

قُلْنَا: السَّبَبُ أَنَّ الرَّجْعَةَ وَالْخُلْعَ لَا يَصِحَّانِ إِلَّا قَبْلَ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ، أَمَّا بَعْدَهَا فَلَا يَبْقَى شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ: فَلِهَذَا السَّبَبِ ذَكَرَ اللَّهُ حُكْمَ الرَّجْعَةِ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِحُكْمِ الْخُلْعِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ الْكُلِّ حُكْمَ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ لِأَنَّهَا كَالْخَاتِمَةِ لِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي هَذَا الْبَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْمُجْتَهِدِينَ أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ بِالثَّلَاثِ لَا تَحِلُّ لِذَلِكَ الزَّوْجِ إِلَّا بِخَمْسِ شَرَائِطَ:

تَعْتَدُّ مِنْهُ، وَتَعْقِدُ لِلثَّانِي، وَيَطَؤُهَا، ثُمَّ يُطَلِّقُهَا، ثُمَّ تَعْتَدُّ مِنْهُ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: تَحِلُّ