للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَادِيًا، وَالْوَادِي كُلُّ مُفْرَجٍ بَيْنَ جِبَالٍ وَآكَامٍ يَكُونُ مَسْلَكًا لِلسَّيْلِ، وَالْجَمْعُ الْأَوْدِيَةُ إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ الْإِنْفَاقَ وَذَلِكَ الْمَسِيرَ.

ثُمَّ قَالَ: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَحْسَنَ مِنْ/ صِفَةِ فِعْلِهِمْ، وَفِيهَا الْوَاجِبُ وَالْمَنْدُوبُ وَالْمُبَاحُ وَاللَّهُ تَعَالَى يَجْزِيهِمْ عَلَى الْأَحْسَنِ، وَهُوَ الْوَاجِبُ وَالْمَنْدُوبُ، دُونَ الْمُبَاحِ.

وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَحْسَنَ صِفَةٌ لِلْجَزَاءِ، أَيْ يَجْزِيهِمْ جَزَاءً هُوَ أَحْسَنُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَأَجَلُّ وأفضل، وهو الثواب.

[[سورة التوبة (٩) : آية ١٢٢]]

وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢)

فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ بَقِيَّةِ أَحْكَامِ الْجِهَادِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْجِهَادِ.

أَمَّا الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ:

نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ إِذَا خَرَجَ إِلَى الْغَزْوِ لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ إِلَّا مُنَافِقٌ أَوْ صَاحِبُ عُذْرٍ. فَلَمَّا بَالَغَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي عُيُوبِ الْمُنَافِقِينَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ قَالَ الْمُؤْمِنُونَ: وَاللَّهِ لَا نَتَخَلَّفُ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْغَزَوَاتِ مَعَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَا عَنْ سَرِيَّةٍ. فَلَمَّا قَدِمَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمَدِينَةَ، وَأَرْسَلَ السَّرَايَا إِلَى الْكُفَّارِ، نَفَرَ الْمُسْلِمُونَ جَمِيعًا إِلَى الْغَزْوِ وَتَرَكُوهُ وَحْدَهُ بِالْمَدِينَةِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.

وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَنْفِرُوا بِكُلِّيَّتِهِمْ إِلَى الْغَزْوِ وَالْجِهَادِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَصِيرُوا طَائِفَتَيْنِ. تَبْقَى طَائِفَةٌ فِي خِدْمَةِ الرَّسُولِ، وَتَنْفِرُ طَائِفَةٌ أُخْرَى إِلَى الْغَزْوِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ مُحْتَاجًا إلى الغزو والجهاد وقهر الكفار، وَأَيْضًا كَانَتِ التَّكَالِيفُ تَحْدُثُ وَالشَّرَائِعُ تَنْزِلُ، وَكَانَ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ إِلَى مَنْ يَكُونُ مُقِيمًا بِحَضْرَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَتَعَلَّمُ تِلْكَ الشَّرَائِعَ، وَيَحْفَظُ تِلْكَ التَّكَالِيفَ وَيُبَلِّغُهَا إِلَى الْغَائِبِينَ.

فَثَبَتَ أَنَّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ الْوَاجِبُ انْقِسَامَ أَصْحَابِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قِسْمَيْنِ، أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ يَنْفِرُونَ إِلَى الْغَزْوِ وَالْجِهَادِ، وَالثَّانِي: يَكُونُونَ مُقِيمِينَ بِحَضْرَةِ الرَّسُولِ، فَالطَّائِفَةُ النَّافِرَةُ إِلَى الْغَزْوِ يَكُونُونَ نَائِبِينَ عَنِ الْمُقِيمِينَ فِي الْغَزْوِ، وَالطَّائِفَةُ الْمُقِيمَةُ يَكُونُونَ نَائِبِينَ عَنِ النَّافِرِينَ، فِي التَّفَقُّهِ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَتِمُّ أَمْرُ الدِّينِ بِهَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ.

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ احْتِمَالَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الطَّائِفَةُ الْمُقِيمَةُ هُمُ الَّذِينَ/ يَتَفَقَّهُونَ فِي الدِّينِ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ لَمَّا لَازَمُوا خِدْمَةَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَشَاهَدُوا الْوَحْيَ وَالتَّنْزِيلَ فَكُلَّمَا نَزَلَ تَكْلِيفٌ وَحَدَثَ شَرْعٌ عَرَفُوهُ وَضَبَطُوهُ، فَإِذَا رَجَعَتِ الطَّائِفَةُ النَّافِرَةُ مِنَ الْغَزْوِ إِلَيْهِمْ، فَالطَّائِفَةُ الْمُقِيمَةُ يُنْذِرُونَهُمْ مَا تَعَلَّمُوهُ مِنَ التَّكَالِيفِ وَالشَّرَائِعِ، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ فَلَا بُدَّ فِي الْآيَةِ مِنْ إِضْمَارٍ، وَالتَّقْدِيرُ: فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ، وَأَقَامَتْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهَ الْمُقِيمُونَ فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ، يَعْنِي النَّافِرِينَ إِلَى الْغَزْوِ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ مَعَاصِيَ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ ذَلِكَ التَّعَلُّمِ.

وَالِاحْتِمَالُ الثَّانِي: هُوَ أَنْ يُقَالَ: التَّفَقُّهُ صِفَةٌ لِلطَّائِفَةِ النَّافِرَةِ وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ حَتَّى تَصِيرَ هَذِهِ الطَّائِفَةُ النَّافِرَةُ فُقَهَاءَ فِي الدِّينِ، وَذَلِكَ التَّفَقُّهُ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُمْ يُشَاهِدُونَ ظُهُورَ

<<  <  ج: ص:  >  >>