فُرِضَ مِنْ أَجْزَاءِ النِّعْمَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي غَايَةِ الْقِلَّةِ وَالْحَقَارَةِ، وَأَهْلُ الثَّوَابِ يَكُونُونَ فِي جَمِيعِ مَوَاقِفِ الْقِيَامَةِ فِي النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ الْمُتَكَامِلَةِ، وَمَنْ كَانَ حَالُهُ كَذَلِكَ كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُبَشَّرَ بِأَنَّهُ يَكُونُ فِي تَوَقُّعِ الشَّيْءِ الَّذِي يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ النِّعْمَةِ، وَمِثَالُ هَذَا أَنْ يُبَشِّرَ سُلْطَانُ الْأَرْضِ بِأَنَّهُ سَيَصِيرُ حَالُكَ فِي الْعَظَمَةِ وَالْقُوَّةِ بَعْدَ سَنَةٍ، بِحَيْثُ تَكُونُ مُتَوَقِّعًا لِحُصُولِ اللُّقْمَةِ الْوَاحِدَةِ مِنَ الْخُبْزِ وَالْقَطْرَةِ الْوَاحِدَةِ مِنَ الْمَاءِ، وَكَمَا أَنَّ ذَلِكَ فَاسِدٌ مِنَ الْقَوْلِ: فَكَذَا هَذَا.
الْمَقَامُ الثَّانِي: هَبْ أَنَّ النَّظَرَ الْمُعَدَّى بِحَرْفِ إِلَى الْمَقْرُونَ بِالْوُجُوهِ جَاءَ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى الِانْتِظَارِ لَكِنْ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ لَذَّةَ الِانْتِظَارِ مَعَ يَقِينِ الْوُقُوعِ كَانَتْ حَاصِلَةً فِي الدُّنْيَا، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَحْصُلَ فِي الْآخِرَةِ شَيْءٌ أَزْيَدُ مِنْهُ حَتَّى يَحْسُنَ ذِكْرُهُ فِي مَعْرِضِ التَّرْغِيبِ فِي الْآخِرَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ هُوَ قُرْبَ الْحُصُولِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ فَبَطَلَ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ التَّأْوِيلِ.
وَأَمَّا التَّأْوِيلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ إِلَى ثَوَابِ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ، فَهَذَا تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ، وَقَوْلُهُ: إِنَّمَا صِرْنَا إِلَيْهِ لِقِيَامِ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يَرَى، قُلْنَا: بَيَّنَّا فِي الْكُتُبِ الْعَقْلِيَّةِ ضَعْفَ تِلْكَ الْوُجُوهِ، فَلَا حَاجَةَ هاهنا إلى ذكرها والله أعلم.
وقوله تعالى:
[سورة القيامة (٧٥) : الآيات ٢٤ الى ٢٥]
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (٢٥)
الْبَاسِرُ: الشَّدِيدُ الْعَبُوسِ وَالْبَاسِلُ أَشَدُّ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ غَلَبَ فِي الشُّجَاعِ إِذَا اشْتَدَّ كُلُوحُهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا عَابِسَةٌ كَالِحَةٌ قَدْ/ أَظْلَمَتْ أَلْوَانُهَا وَعَدِمَتْ آثَارُ السُّرُورِ وَالنِّعْمَةِ مِنْهَا، لِمَا أَدْرَكَهَا مِنَ الشَّقَاءِ وَالْيَأْسِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَلِمَا سَوَّدَهَا اللَّهُ حِينَ مَيَّزَ اللَّهُ أَهْلَ الْجَنَّةِ والنار، وقد تقدم تفسير السور عند قوله: عَبَسَ وَبَسَرَ [المدثر: ٢٢] وَإِنَّمَا كَانَتْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، لِأَنَّهَا قَدْ أَيْقَنَتْ أَنَّ الْعَذَابَ نَازِلٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ: تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ والظن هاهنا بِمَعْنَى الْيَقِينِ، هَكَذَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ، وَعِنْدِي أَنَّ الظن إنما ذكر هاهنا عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ كَأَنَّهُ قِيلَ: إِذَا شَاهَدُوا تِلْكَ الْأَحْوَالَ، حَصَلَ فِيهِمْ ظَنٌّ أَنَّ الْقِيَامَةَ حَقٌّ، وَأَمَّا الْفَاقِرَةُ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْفَاقِرَةُ الدَّاهِيَةُ، وَهُوَ اسْمٌ لِلْوَسْمِ الَّذِي يُفْقَرُ بِهِ عَلَى الْأَنْفِ، قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الْفَقْرُ أَنْ يُحَزَّ أَنْفُ الْبَعِيرِ حَتَّى يَخْلُصَ إِلَى الْعَظْمِ، أَوْ قَرِيبٍ مِنْهُ، ثُمَّ يُجْعَلَ فِيهِ خَشَبَةٌ يُجَرُّ الْبَعِيرُ بِهَا، وَمِنْهُ قِيلَ: عَمِلَتْ بِهِ الْفَاقِرَةُ، قَالَ الْمُبَرِّدُ: الْفَاقِرَةُ دَاهِيَةٌ تَكْسِرُ الظَّهْرَ، وَأَصْلُهَا مِنَ الْفَقْرَةِ وَالْفَقَارَةِ كَأَنَّ الْفَاقِرَةَ دَاهِيَةٌ تَكْسِرُ فَقَارَ الظَّهْرِ، وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: يُقَالُ فَقَرْتُ الرَّجُلَ، كَمَا يُقَالُ رَأَسْتُهُ وَبَطَنْتُهُ فَهُوَ مَفْقُورٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ فَسَّرَ الْفَاقِرَةَ بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ فِي النَّارِ، وَفَسَّرَهَا الْكَلْبِيُّ فَقَالَ:
الْفَاقِرَةُ هِيَ أَنْ تُحْجَبَ عَنْ رُؤْيَةِ رَبِّهَا ولا تنظر إليه.
[[سورة القيامة (٧٥) : آية ٢٦]]
كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (٢٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: كَلَّا قَالَ الزَّجَّاجُ: كَلَّا رَدْعٌ عَنْ إِيثَارِ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: لَمَّا عَرَفْتُمْ صِفَةَ سَعَادَةِ السُّعَدَاءِ وَشَقَاوَةِ الْأَشْقِيَاءِ فِي الْآخِرَةِ، وَعَلِمْتُمْ أَنَّهُ لَا نِسْبَةَ لَهَا إِلَى الدُّنْيَا، فَارْتَدِعُوا عَنْ إِيثَارِ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute