للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ [الْأَحْزَابِ: ٣٥] فَلِمَ لَا يجوز أن يكون هاهنا كَذَلِكَ، ثُمَّ احْتَجَّ الْكُوفِيُّونَ بِأَنَّ الْعَامِلَ الْأَوَّلَ مُتَقَدِّمٌ فِي الْوُجُودِ عَلَى الْعَامِلِ الثَّانِي، وَالْعَامِلُ الْأَوَّلُ حِينَ وُجِدَ اقْتَضَى مَعْمُولًا لِامْتِنَاعِ حُصُولِ الْعِلَّةِ دُونَ الْمَعْمُولِ، فَصَيْرُورَةُ الْمَعْمُولِ مَعْمُولًا لِلْعَامِلِ الْأَوَّلِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى وُجُودِ الْعَامِلِ الثَّانِي، وَالْعَامِلُ الثَّانِي إِنَّمَا وُجِدَ بَعْدَ أَنْ صَارَ مَعْمُولًا لِلْعَامِلِ الْأَوَّلِ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَصِيرَ أَيْضًا مَعْمُولًا لِلْعَامِلِ الثَّانِي، لِامْتِنَاعِ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ بِعِلَّتَيْنِ، وَلِامْتِنَاعِ تَعْلِيلِ مَا وُجِدَ قَبْلُ بِمَا يُوجَدُ بَعْدُ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ لَطَائِفِ النَّحْوِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْهَاءُ لِلسَّكْتِ فِي كِتابِيَهْ وَكَذَا فِي حِسابِيَهْ [الحاقة: ٢٠] ومالِيَهْ [الحاقة: ٢٨] وسُلْطانِيَهْ [الحاقة: ٢٩] وَحَقُّ هَذِهِ الْهَاءَاتِ أَنْ تَثْبُتَ فِي الْوَقْفِ وَتَسْقُطَ فِي الْوَصْلِ، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْهَاءَاتُ مُثْبَتَةً فِي الْمُصْحَفِ وَالْمُثْبَتَةُ فِي الْمُصْحَفِ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ مُثْبَتَةً فِي اللَّفْظِ، وَلَمْ يَحْسُنْ إِثْبَاتُهَا فِي اللَّفْظِ إِلَّا عِنْدَ الْوَقْفِ، لَا جَرَمَ اسْتَحَبُّوا الْوَقْفَ لِهَذَا السَّبَبِ. وَتَجَاسَرَ بَعْضُهُمْ فَأَسْقَطَ هَذِهِ الْهَاءَاتِ عِنْدَ الْوَصْلِ، وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ بِإِسْكَانِ الْيَاءِ بِغَيْرِهَا. وَقَرَأَ جَمَاعَةٌ بِإِثْبَاتِ الْهَاءِ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ جَمِيعًا لِاتِّبَاعِ الْمُصْحَفِ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا أُوتِيَ كتابيه بيمينه، ثم إنه يقول: هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ بَلَغَ الْغَايَةَ فِي السُّرُورِ لِأَنَّهُ لَمَّا أُعْطِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ عَلِمَ أَنَّهُ مِنَ النَّاجِينَ وَمِنَ الْفَائِزِينَ بِالنَّعِيمِ، فَأَحَبَّ أَنْ يُظْهِرَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ حَتَّى يَفْرَحُوا بِمَا نَالَهُ. وَقِيلَ: يَقُولُ ذَلِكَ لِأَهْلِ بَيْتِهِ وقرابته.

ثم إنه تعالى حكى عنه أنه يقول:

[[سورة الحاقة (٦٩) : آية ٢٠]]

إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (٢٠)

وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْيَقِينُ الِاسْتِدْلَالِيُّ وَكُلُّ مَا ثَبَتَ بِالِاسْتِدْلَالِ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَكُّ مِنَ الْخَوَاطِرِ الْمُخْتَلِفَةِ، فَكَانَ ذَلِكَ شَبِيهًا بِالظَّنِّ الثَّانِي: التَّقْدِيرُ: إِنِّي كُنْتُ أَظُنُّ أَنِّي أُلَاقِي حِسَابِي فَيُؤَاخِذُنِي اللَّهُ بِسَيِّئَاتِي، فَقَدْ تَفَضَّلَ عَلَيَّ بِالْعَفْوِ وَلَمْ يؤاخذني بها فهاؤم اقرؤا كِتَابِيَهْ وَثَالِثُهَا:

رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ يُؤْتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيُؤْتَى كِتَابَهُ فَتَظْهَرُ حَسَنَاتُهُ فِي ظَهْرِ كَفِّهِ وَتُكْتَبُ سَيِّئَاتُهُ فِي بَطْنِ كَفِّهِ فَيَنْظُرُ إِلَى سَيِّئَاتِهِ فَيَحْزَنُ، فَيُقَالُ لَهُ: اقْلِبْ كَفَّكَ فَيَنْظُرُ فِيهِ فَيَرَى حَسَنَاتِهِ فَيَفْرَحُ،

ثُمَّ يَقُولُ: هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ- عِنْدَ النَّظْرَةِ الْأُولَى- أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ عَلَى سَبِيلِ الشِّدَّةِ، وَأَمَّا الْآنَ فَقَدْ فَرَّجَ اللَّهُ عَنِّي ذَلِكَ الْغَمَّ، وَأَمَّا فِي حَقِّ الْأَشْقِيَاءِ فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى الضِّدِّ مِمَّا ذَكَرْنَا وَرَابِعُهَا: ظَنَنْتُ: أَيْ عَلِمْتُ، وَإِنَّمَا أُجْرِيَ مَجْرَى الْعِلْمِ. لِأَنَّ الظَّنَّ الْغَالِبَ يُقَامُ مَقَامَ الْعِلْمِ فِي/ الْعَادَاتِ وَالْأَحْكَامِ، يُقَالُ: أَظُنُّ ظَنًّا كَالْيَقِينِ أَنَّ الْأَمْرَ كَيْتَ وَكَيْتَ وَخَامِسُهَا: الْمُرَادُ إِنِّي ظَنَنْتُ فِي الدُّنْيَا أَنَّ بِسَبَبِ الْأَعْمَالِ الَّتِي كُنْتُ أَعْمَلُهَا فِي الدُّنْيَا سَأَصِلُ فِي الْقِيَامَةِ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَاتِ وَقَدْ حَصَلَتِ الْآنَ عَلَى الْيَقِينِ فَيَكُونُ الظَّنُّ عَلَى ظَاهِرِهِ، لأن أهل الدنيا لا يقطعون بذلك.

ثم بين تعالى عاقبة أمره فقال:

[[سورة الحاقة (٦٩) : آية ٢١]]

فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٢١)

وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: وَصْفُ الْعِيشَةِ بِأَنَّهَا رَاضِيَةٌ فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: الْمَعْنَى أَنَّهَا مَنْسُوبَةٌ إِلَى الرِّضَا كَالدَّارِعِ

<<  <  ج: ص:  >  >>