للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مِنْهُ، «وَالْجَوَابُ» : لَا نِزَاعَ إِلَّا فِي قَوْلِكُمُ الِاسْتِغْفَارُ لِلْكَافِرِ لَا يَجُوزُ فَإِنَّ الْكَلَامَ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْقَطْعَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعَذِّبُ الْكَافِرَ لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِالسَّمْعِ، فَلَعَلَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَجِدْ فِي شَرْعِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْقَطْعِ بِعَذَابِ الْكَافِرِ فَلَا جَرَمَ اسْتَغْفَرَ لِأَبِيهِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الِاسْتِمَاحَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ [الْجَاثِيَةِ: ١٤] وَالْمَعْنَى سَأَسْأَلُ رَبِّي أَنْ لَا يَجْزِيَكَ بِكُفْرِكَ مَا كُنْتُ حَيًّا بِعَذَابِ الدُّنْيَا الْمُعَجَّلِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا اسْتَغْفَرَ لِأَبِيهِ لِأَنَّهُ كَانَ يَرْجُو مِنْهُ الْإِيمَانَ فَلَمَّا أَيِسَ مِنْ ذَلِكَ تَرَكَ الِاسْتِغْفَارَ وَلَعَلَّ فِي شَرْعِهِ جَوَازُ الِاسْتِغْفَارِ لِلْكَافِرِ الَّذِي يُرْجَى مِنْهُ الْإِيمَانُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى وُقُوعِ هَذَا الِاحْتِمَالِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ [التَّوْبَةِ: ١١٣] فَبَيَّنَ أَنَّ الْمَنْعَ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ إِنَّمَا يَحْصُلُ بَعْدَ أَنْ يَعْرِفُوا أَنَّهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [التَّوْبَةِ: ١١٤] فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ وَعَدَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ لَوْ آمَنَ، فَلَمَّا لَمْ يُؤْمِنْ لَمْ يَسْتَغْفِرْ لَهُ بَلْ تَبَرَّأَ مِنْهُ، فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلِمَ مَنَعَنَا مِنَ التَّأَسِّي بِهِ فِي قَوْلِهِ: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ- إِلَى قَوْلِهِ- إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ [الْمُمْتَحَنَةِ: ٤] قُلْنَا الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَنَا التَّأَسِّي بِهِ فِي ذَلِكَ لَكِنَّ الْمَنْعَ مِنَ التَّأَسِّي بِهِ فِي ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَعْصِيَةً. فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَشْيَاءِ هِيَ مِنْ خَوَاصِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَجُوزُ لَنَا التَّأَسِّي بِهِ مَعَ أَنَّهَا كَانَتْ مُبَاحَةً لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَرَابِعُهَا: لَعَلَّ هَذَا الِاسْتِغْفَارَ كَانَ مِنْ بَابِ تَرْكِ الْأَوْلَى وَحَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ، أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا أَيْ لَطِيفًا رَفِيقًا يُقَالُ أَحْفَى فُلَانٌ فِي الْمَسْأَلَةِ بِفُلَانٍ إِذَا لَطَفَ بِهِ وَبَالَغَ فِي الرِّفْقِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا [مُحَمَّدٍ: ٣٧] أَيْ وَإِنْ لَطُفَتِ الْمَسْأَلَةُ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لِلُطْفِهِ بِي وَإِنْعَامِهِ عَلَيَّ عَوَّدَنِي الْإِجَابَةَ فَإِذَا أَنَا اسْتَغْفَرْتُ لَكَ حَصَلَ الْمُرَادُ فَكَأَنَّهُ جَعَلَهُ بِذَلِكَ عَلَى يَقِينٍ إِنْ هُوَ تَابَ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ الْغُفْرَانُ. الْجَوَابُ الثَّانِي مِنَ الْجَوَابَيْنِ قَوْلُهُ: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الِاعْتِزَالُ لِلْشَيْءِ هُوَ التَّبَاعُدُ عَنْهُ وَالْمُرَادُ أَنِّي أُفَارِقُكُمْ فِي الْمَكَانِ وَأُفَارِقُكُمْ فِي طَرِيقَتِكُمْ أَيْضًا وَأَبْعُدُ عَنْكُمُ وَأَتَشَاغَلُ بِعِبَادَةِ رَبِّيَ الَّذِي يَنْفَعُ وَيَضُرُّ وَالَّذِي خَلَقَنِي وَأَنْعَمَ عَلَيَّ فَإِنَّكُمْ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ سَالِكُونَ طَرِيقَةَ الْهَلَاكِ، فَوَاجِبٌ عَلَيَّ مُجَانَبَتُكُمْ وَمَعَنَى قَوْلِهِ: عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا أَرْجُو أَنَ لَا أَكُونَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ عَلَى

سَبِيلِ التَّوَاضُعِ كَقَوْلِهِ: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشُّعَرَاءِ: ٨٢] وَأَمَّا قَوْلُهُ: شَقِيًّا مَعَ مَا فِيهِ مِنَ التَّوَاضُعِ لِلَّهِ فَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِشَقَاوَتِهِمْ فِي دُعَاءِ آلِهَتِهِمْ عَلَى مَا قَرَّرَهُ أَوَّلًا فِي/ قَوْلِهِ: لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً

[مَرْيَمَ: ٤٢] .

[سورة مريم (١٩) : الآيات ٤٩ الى ٥٠]

فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (٤٩) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (٥٠)

اعْلَمْ أَنَّهُ مَا خَسِرَ عَلَى اللَّهِ أَحَدٌ فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا اعْتَزَلَهُمْ فِي دِينِهِمْ وَفِي بَلَدِهِمْ وَاخْتَارَ الْهِجْرَةَ إِلَى رَبِّهِ إِلَى حَيْثُ أَمَرَهُ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ دِينًا وَدُنْيَا، بَلْ نَفَعَهُ فَعَوَّضَهُ أَوْلَادًا أَنْبِيَاءَ وَلَا حَالَةَ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا لِلْبَشَرِ أَرْفَعُ مِنْ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُ رَسُولًا إِلَى خَلْقِهِ وَيُلْزِمَ الْخَلْقَ طَاعَتَهُ وَالِانْقِيَادَ لَهُ مَعَ مَا يَحْصُلُ فِيهِ مِنْ عَظِيمِ الْمَنْزِلَةِ فِي الْآخِرَةِ فَصَارَ جَعْلُهُ تَعَالَى إِيَّاهُمْ أَنْبِيَاءَ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ وَهَبَ لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ أَيْ وَهَبَ لَهُمْ مِنَ النُّبُوَّةِ مَا وَهَبَ وَيَدْخُلُ فِيهِ الْمَالُ وَالْجَاهُ وَالْأَتْبَاعُ وَالنَّسْلُ الطَّاهِرُ وَالذُّرِّيَّةُ الطَّيِّبَةُ ثُمَّ قَالَ:

<<  <  ج: ص:  >  >>