غَيْرِ الْمُتَنَاهِي مُحَالٌ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى يُضَعِّفُهُ بِحَسَبِ الْمِقْدَارِ، مَثَلًا يَسْتَحِقُّ عَلَى طَاعَتِهِ عَشَرَةَ أَجْزَاءٍ مِنَ الثَّوَابِ، فَيَجْعَلُهُ عِشْرِينَ جُزْءًا، أَوْ ثَلَاثِينَ جُزْءًا، أَوْ أَزْيَدَ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يُؤْتَى بِالْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيُنَادِي مُنَادٍ عَلَى رؤوس الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ: هَذَا فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ، مَنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ حَقٌّ فَلْيَأْتِ إِلَى حَقِّهِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: أَعْطِ هَؤُلَاءِ حُقُوقَهُمْ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مِنْ أَيْنَ وَقَدْ ذَهَبَتِ الدُّنْيَا؟ فَيَقُولُ اللَّه لِمَلَائِكَتِهِ:
انْظُرُوا فِي أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ فَأَعْطُوهُمْ مِنْهَا فَإِنْ بَقِيَ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ حَسَنَةٍ ضَعَّفَهَا اللَّه تَعَالَى لِعَبْدِهِ وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ. مِصْدَاقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّه تَعَالَى: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَقَالَ الْحَسَنُ: قَوْلُهُ: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها هَذَا أَحَبُّ إِلَى الْعُلَمَاءِ مِمَّا لَوْ قَالَ: فِي الْحَسَنَةِ الْوَاحِدَةِ مِائَةُ أَلْفِ حَسَنَةٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْكَلَامَ يَكُونُ مِقْدَارُهُ مَعْلُومًا أَمَّا عَلَى هَذِهِ الْعِبَارَةِ فَلَا يَعْلَمُ كَمِّيَّةُ ذَلِكَ التَّضْعِيفِ إِلَّا اللَّه تَعَالَى، وَهُوَ كَقَوْلِهِ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ إِنَّهَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ. وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ: بَلَغَنِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّه لَيُعْطِي عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ بِالْحَسَنَةِ الْوَاحِدَةِ أَلْفَ أَلْفَ حَسَنَةٍ، فَقَدَّرَ اللَّه أَنْ ذَهَبْتُ إِلَى مَكَّةَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا فَأَلْفَيْتُهُ فَقُلْتُ: بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ تَقُولُ: إِنَّ اللَّه يُعْطِي عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ بِالْحَسَنَةِ الْوَاحِدَةِ أَلْفَ أَلْفَ حَسَنَةٍ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَمْ أَقُلْ ذَلِكَ، وَلَكِنْ قُلْتُ: إِنَّ الْحَسَنَةَ تُضَاعَفُ بِأَلْفَيْ أَلْفِ ضِعْفٍ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ وَقَالَ: إِذَا قَالَ اللَّه: أَجْراً عَظِيماً فَمَنْ يُقَدِّرُ قَدْرَهُ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَدُنْ: بِمَعْنَى «عِنْدَ» إِلَّا أَنَّ «لَدُنْ» أَكْثَرُ تَمْكِينًا، يَقُولُ الرَّجُلُ: عِنْدِي مَالٌ إِذَا كَانَ مَالُهُ بِبَلَدٍ آخَرَ، وَلَا يُقَالُ: لَدَيَّ مَالٌ وَلَا لَدُنِّي، إِلَّا مَا كَانَ حَاضِرًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَالَّذِي يحظر بِبَالِي وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّه، أَنَّ ذَلِكَ التَّضْعِيفَ يَكُونُ مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ الثَّوَابِ، وَأَمَّا هَذَا الْأَجْرُ/ الْعَظِيمُ فَلَا يَكُونُ مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ الثَّوَابِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ التَّضْعِيفَ يَكُونُ مِنْ جنس اللذات الموعد بِهَا فِي الْجَنَّةِ، وَأَمَّا هَذَا الْأَجْرُ الْعَظِيمُ الَّذِي يُؤْتِيهِ مِنْ لَدُنْهُ، فَهُوَ اللَّذَّةُ الْحَاصِلَةُ عِنْدَ الرُّؤْيَةِ، وَعِنْدَ الِاسْتِغْرَاقِ فِي الْمَحَبَّةِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَإِنَّمَا خَصَّ هَذَا النَّوْعَ بِقَوْلِهِ: مِنْ لَدُنْهُ لِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْغِبْطَةِ وَالسَّعَادَةِ وَالْبَهْجَةِ وَالْكَمَالِ، لَا يُنَالُ بِالْأَعْمَالِ الْجَسَدَانِيَّةِ، بَلْ إِنَّمَا يُنَالُ بِمَا يُودِعُ اللَّه فِي جَوْهَرِ النَّفْسِ الْقُدْسِيَّةِ مِنَ الْإِشْرَاقِ وَالصَّفَاءِ وَالنُّورِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَذَلِكَ التَّضْعِيفُ إِشَارَةٌ إِلَى السَّعَادَةِ الْجُسْمَانِيَّةِ، وَهَذَا الْأَجْرُ العظيم إشارة إلى السعادة الروحانية.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٤١ الى ٤٢]
فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (٤١) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (٤٢)
وَجْهُ النَّظْمِ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ فِي الْآخِرَةِ لَا يَجْرِي عَلَى أَحَدٍ ظُلْمٌ، وَأَنَّهُ تَعَالَى يُجَازِي الْمُحْسِنَ عَلَى إِحْسَانِهِ وَيَزِيدُهُ عَلَى قَدْرِ حَقِّهِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ ذَلِكَ يَجْرِي بِشَهَادَةِ الرُّسُلِ الَّذِينَ جَعَلَهُمُ اللَّه الْحُجَّةَ عَلَى الْخَلْقِ، لِتَكُونَ الْحُجَّةُ عَلَى الْمُسِيءِ أَبْلَغَ، وَالتَّبْكِيتُ لَهُ أَعْظَمَ وَحَسْرَتُهُ أَشَدَّ، وَيَكُونَ سُرُورُ مَنْ قَبِلَ ذَلِكَ مِنَ الرَّسُولِ وَأَظْهَرَ الطَّاعَةَ أَعْظَمَ، وَيَكُونَ هَذَا وَعِيدًا لِلْكُفَّارِ الَّذِينَ قَالَ اللَّه فِيهِمْ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَوَعْدًا لِلْمُطِيعِينَ الَّذِينَ قَالَ اللَّه فيهم: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها [النساء: ٤٠] [في قَوْلُهُ تَعَالَى فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً] وفيه مسائل:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute