للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قُرِئَ وَأَنَّكَ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ وَوَجْهُ الْفَتْحِ الْعَطْفُ عَلَى أَنْ لَا تَجُوعَ فِيهَا، فَإِنْ قِيلَ: أَنْ لَا تَدْخُلُ عَلَى أَنَّ فَلَا يُقَالُ أَنْ أَنَّ زَيْدًا مُنْطَلِقٌ وَالْوَاوُ نَائِبَةٌ عَنْ أَنَّ وَقَائِمَةٌ مَقَامَهَا فَلِمَ أُدْخِلَتْ عَلَيْهَا؟ قُلْنَا: الْوَاوُ لَمْ تُوضَعْ لِتَكُونَ أَبَدًا نَائِبَةً عَنْ أَنَّ، إِنَّمَا هِيَ نَائِبَةٌ عَنْ كُلِّ عَامِلٍ، فَلَمَّا لَمْ تَكُنْ حَرْفًا مَوْضُوعًا لِلتَّحْقِيقِ خَاصَّةً كَانَ لَمْ يَمْتَنِعِ اجْتِمَاعُهُمَا كَمَا امْتَنَعَ اجْتِمَاعُ أَنْ وَأَنَّ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الشِّبَعُ وَالرِّيُّ وَالْكُسْوَةُ وَالِاكْتِنَانُ فِي الظِّلِّ هِيَ الْأَقْطَابُ الَّتِي يَدُورُ عَلَيْهَا أَمْرُ الْإِنْسَانِ.

فَذَكَرَ اللَّه تَعَالَى حُصُولَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَهُ فِي الْجَنَّةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى الْكَسْبِ وَالطَّلَبِ وَذَكَرَهَا بِلَفْظِ النَّفْيِ لِأَضْدَادِهَا الَّتِي هِيَ الْجُوعُ وَالْعُرْيُ وَالظَّمَأُ وَالضُّحَى لِيَطْرُقَ سَمْعُهُ شَيْئًا مِنْ أَصْنَافِ الشِّقْوَةِ الَّتِي حَذَّرَهُ مِنْهَا حَتَّى يُبَالِغَ فِي الِاحْتِرَازِ عَنِ السَّبَبِ الَّذِي يُوقِعُهُ فِيهَا، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا كَأَنَّهَا تَفْسِيرُ الشَّقَاءِ الْمَذْكُورِ فِي قوله:

فَتَشْقى.

[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٢٠ الى ١٢٢]

فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلى (١٢٠) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (١٢١) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (١٢٢)

وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ أَنَّهُ عَظَّمَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنْ جَعَلَهُ مَسْجُودًا لِلْمَلَائِكَةِ وَبَيَّنَ أَنَّهُ عَرَّفَهُ شِدَّةَ عَدَاوَةِ إِبْلِيسَ لَهُ وَلِزَوْجِهِ وَأَنَّهُ لِعَدَاوَتِهِ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْمَعْصِيَةِ الَّتِي إِذَا وَقَعَتْ زَالَتْ تِلْكَ النِّعَمُ بِأَسْرِهَا، ثُمَّ إِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ اتَّفَقَ مِنْهُ وَمِنْ حَوَّاءَ الْإِقْدَامُ عَلَى الزَّلَّةِ مَا اتَّفَقَ، وَالْعَجَبُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ: «لَوْ أَنَّ أَحْلَامَ بَنِي آدَمَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ وُضِعَتْ فِي كِفَّةِ مِيزَانٍ وَوُضِعَ حُلْمُ آدَمَ فِي الْأُخْرَى لَرَجَحَ حُلْمُهُ بِأَحْلَامِهِمْ» وَلَكِنَّ الْمُكَادَحَةَ مَعَ قَضَاءِ اللَّه تَعَالَى مُمْتَنَعَةٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ وَاقِعَةَ آدَمَ عَجِيبَةٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى رَغَّبَهُ فِي دَوَامِ الرَّاحَةِ وَانْتِظَامِ الْمَعِيشَةِ بِقَوْلِهِ: فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى [طه: ١١٧- ١١٩] وَرَغَّبَهُ إِبْلِيسُ أَيْضًا فِي دَوَامِ الرَّاحَةِ بِقَوْلِهِ: هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَفِي انْتِظَامِ الْمَعِيشَةِ بِقَوْلِهِ: وَمُلْكٍ لَا يَبْلى فَكَانَ الشَّيْءُ الَّذِي رَغَّبَ اللَّه آدَمَ فِيهِ هُوَ الَّذِي رَغَّبَهُ إِبْلِيسُ فِيهِ إِلَّا أَنَّ اللَّه تَعَالَى وَقَّفَ ذَلِكَ عَلَى الِاحْتِرَاسِ عَنْ تِلْكَ الشَّجَرَةِ وَإِبْلِيسَ وَقَّفَهُ عَلَى الْإِقْدَامِ عَلَيْهَا، ثُمَّ إِنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ كَمَالِ عَقْلِهِ وَعِلْمِهِ بِأَنَّ اللَّه تَعَالَى مَوْلَاهُ وَنَاصِرُهُ وَمُرَبِّيهِ أَعْلَمَهُ بِأَنَّ إِبْلِيسَ عَدُوُّهُ حَيْثُ امْتَنَعَ مِنَ السُّجُودِ لَهُ وَعَرَّضَ نَفْسَهُ لِلَّعْنَةِ بِسَبَبِ عَدَاوَتِهِ، كَيْفَ قَبِلَ فِي الْوَاقِعَةِ الْوَاحِدَةِ وَالْمَقْصُودِ الْوَاحِدِ قَوْلَ إِبْلِيسَ مَعَ عِلْمِهِ بِكَمَالِ عَدَاوَتِهِ لَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ قَوْلِ اللَّه تَعَالَى مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ هُوَ النَّاصِرُ وَالْمُرَبِّي. وَمَنْ تَأَمَّلَ فِي هَذَا الْبَابِ طَالَ تَعَجُّبُهُ وَعَرَفَ آخِرِ الْأَمْرِ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ كَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ لَا دَافِعَ لِقَضَاءِ اللَّه وَلَا مَانِعَ مِنْهُ، وَأَنَّ الدَّلِيلَ وَإِنْ كَانَ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ وَنِهَايَةِ الْقُوَّةِ فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ النَّفْعُ بِهِ إِلَّا إِذَا قَضَى اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ وَقَدَّرَهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّهُ كَيْفَ وَسْوَسَ، وَبِمَاذَا وَسْوَسَ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ عَدَّى وَسْوَسَ تَارَةً بِاللَّامِ فِي قوله:

فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ [الأعراف: ٢٠] وأخرى بإلى؟ قلنا قوله: فَوَسْوَسَ لَهُمَا مَعْنَاهُ لِأَجْلِهِ وَقَوْلُهُ: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ مَعْنَاهُ أَنْهَى إِلَيْهِ الْوَسْوَسَةَ كَقَوْلِهِ حَدَّثَ لَهُ وَأَسَرَّ إِلَيْهِ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ تِلْكَ الْوَسْوَسَةَ كَانَتْ بِتَطْمِيعِهِ في أمرين:

<<  <  ج: ص:  >  >>