للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مَعْنَاهُ أَنَّهُ رَآهَا وَالثَّانِي: أَنَّ كَادَ مَعْنَاهُ الْمُقَارَبَةُ فَقَوْلُهُ: لَمْ يَكَدْ يَراها مَعْنَاهُ لَمْ يُقَارِبِ الْوُقُوعَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِي لَمْ يُقَارِبِ الْوُقُوعَ لَمْ يَقَعْ أَيْضًا وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمُخْتَارُ وَالْأَوَّلُ ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ هَذِهِ الظُّلُمَاتِ فَإِنَّهُ لَا يُرَى فِيهِ شَيْءٌ فَكَيْفَ مَعَ هَذِهِ الظُّلُمَاتِ الثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا التَّمْثِيلِ الْمُبَالَغَةُ فِي جَهَالَةِ الْكُفَّارِ وَذَلِكَ إِنَّمَا يَحْصُلُ إِذَا لَمْ تُوجَدِ الرُّؤْيَةُ الْبَتَّةَ مَعَ هَذِهِ الظُّلُمَاتِ.

أَمَّا قَوْلُهُ: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ فَقَالَ أَصْحَابُنَا إِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا وَصَفَ هِدَايَةَ الْمُؤْمِنِ بِأَنَّهَا فِي نِهَايَةِ الْجَلَاءِ وَالظُّهُورِ عَقَّبَهَا بِأَنْ قَالَ: يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَلَمَّا وَصَفَ ضَلَالَةَ الْكَافِرِ بِأَنَّهَا فِي نِهَايَةِ الظُّلْمَةِ عَقَّبَهَا بِقَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَعْرِفَ الْإِنْسَانُ أَنَّ ظُهُورَ الدَّلَائِلِ لَا يُفِيدُ الْإِيمَانَ وَظُلْمَةُ الطَّرِيقِ لَا تَمْنَعُ مِنْهُ، فَإِنَّ الْكُلَّ مَرْبُوطٌ بِخَلْقِ اللَّه تَعَالَى وَهِدَايَتِهِ وَتَكْوِينِهِ، وَقَالَ الْقَاضِي الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً أَيْ فِي الدُّنْيَا بِالْأَلْطَافِ فَما لَهُ مِنْ نُورٍ أَيْ لَا يَهْتَدِي فَيَتَحَيَّرُ وَيُحْتَمَلُ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً أَيْ مَخْلَصًا فِي الْآخِرَةِ وَفَوْزًا بِالثَّوَابِ فَما لَهُ مِنْ نُورٍ والكلام عليه تزييفا وتقريرا معلوم.

[سورة النور (٢٤) : الآيات ٤١ الى ٤٢]

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٤٢)

اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا وَصَفَ أَنْوَارَ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ وَظُلُمَاتِ قُلُوبِ الْجَاهِلِينَ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِدَلَائِلِ التَّوْحِيدِ:

فَالنوع الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الآية [في قَوْلُهُ تَعَالَى أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ] وَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ الْمُرَادَ أَلَمْ تَعْلَمْ لِأَنَّ التَّسْبِيحَ لَا/ تَتَنَاوَلُهُ الرُّؤْيَةُ بِالْبَصَرِ وَيَتَنَاوَلُهُ الْعِلْمُ بِالْقَلْبِ، وَهَذَا الْكَلَامُ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ اسْتِفْهَامًا فَالْمُرَادُ التَّقْرِيرُ وَالْبَيَانُ، فَنَبَّهَ تَعَالَى عَلَى مَا يَلْزَمُ مِنْ تَعْظِيمِهِ بِأَنَّ مَنْ فِي السموات يُسَبِّحُ لَهُ وَكَذَلِكَ مَنْ فِي الْأَرْضِ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ التَّسْبِيحِ دَلَالَةُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى مُنَزَّهًا عَنِ النَّقَائِصِ مَوْصُوفًا بِنُعُوتِ الْجَلَالِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهَا تَنْطِقُ بِالتَّسْبِيحِ وَتَتَكَلَّمُ بِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ فِي حَقِّ الْبَعْضِ الدَّلَالَةَ عَلَى التَّنْزِيهِ وَفِي حَقِّ الْبَاقِينَ النُّطْقَ بِاللِّسَانِ، وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ أَقْرَبُ لِأَنَّ الْقِسْمَ الثَّانِي مُتَعَذِّرٌ، لِأَنَّ فِي الْأَرْضِ مَنْ لَا يَكُونُ مُكَلَّفًا لَا يُسَبِّحُ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَالْمُكَلَّفُونَ مِنْهُمْ مَنْ لَا يُسَبِّحُ أَيْضًا بِهَذَا الْمَعْنَى كَالْكُفَّارِ، أَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنْ يقال إن من في السموات وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِاللِّسَانِ، وَأَمَّا الَّذِينَ فِي الْأَرْضِ فَمِنْهُمْ مَنْ يُسَبِّحُ بِاللِّسَانِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَبِّحُ عَلَى سَبِيلِ الدَّلَالَةِ فَهَذَا يَقْتَضِي اسْتِعْمَالَ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ مَعًا وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مُشْتَرِكَةٌ فِي أَنَّ أَجْسَامَهَا وَصِفَاتِهَا دَالَّةٌ عَلَى تَنْزِيهِ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَعَلَى قُدْرَتِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَعَدْلِهِ فَسُمِّيَ ذَلِكَ تَنْزِيهًا عَلَى وَجْهِ التَّوَسُّعِ. فَإِنْ قِيلَ فَالتَّسْبِيحُ بِهَذَا الْمَعْنَى حَاصِلٌ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ فَمَا وجه تخصيصه هاهنا بِالْعُقَلَاءِ؟ قُلْنَا لِأَنَّ خِلْقَةَ الْعُقَلَاءِ أَشَدُّ دَلَالَةً عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ سُبْحَانَهُ لِأَنَّ الْعَجَائِبَ وَالْغَرَائِبَ فِي خَلْقِهِمْ أَكْثَرُ وَهِيَ الْعَقْلُ وَالنُّطْقُ وَالْفَهْمُ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ مَا وَجْهُ اتِّصَالِ هَذَا بِمَا قَبْلَهُ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ أَهْلَ السموات وَأَهْلَ الْأَرْضِ يُسَبِّحُونَ ذَكَرَ أَنَّ الَّذِينَ اسْتَقَرُّوا فِي الْهَوَاءِ الَّذِي هُوَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ

<<  <  ج: ص:  >  >>