الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِالْغَيْبِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بِالْحَالِ وَالْمَعْنَى مَنْ يَخَافُهُ حَالَ كَوْنِهِ غَائِبًا عَنْ رُؤْيَتِهِ وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ [ق: ٣٣] ويَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ [الأنبياء: ٤٩] وَأَمَّا مَعْنَى الْغَيْبِ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [الْبَقَرَةِ: ٣] .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ والمراد عذاب الآخرة والتعزيز فِي الدُّنْيَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا الْعَذَابُ هُوَ أَنْ يُضْرَبَ بَطْنُهُ وَظَهْرُهُ ضَرْبًا وَجِيعًا وَيُنْزَعَ ثِيَابُهُ. قَالَ الْقَفَّالُ: وَهَذَا جَائِزٌ لِأَنَّ اسْمَ الْعَذَابِ قَدْ يَقَعُ عَلَى الضَّرْبِ كَمَا سَمَّى جَلْدَ الزَّانِيَيْنِ عَذَابًا فَقَالَ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ [النُّورِ: ٢] وَقَالَ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ [النِّسَاءِ: ٢٥] وَقَالَ حَاكِيًا عَنْ سليمان في الهدهد:
لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً [النمل: ٢١] .
[[سورة المائدة (٥) : آية ٩٥]]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٩٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُرَادُ بِالصَّيْدِ قَوْلَانِ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الَّذِي تَوَحَّشَ سَوَاءٌ كَانَ مَأْكُولًا أَوْ لَمْ يَكُنْ، فَعَلَى هَذَا الْمُحْرِمُ إِذَا قَتَلَ سَبُعًا لَا يؤكل لحمه ضمن ولا يجب بِهِ قِيمَةَ شَاةٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه، وَقَالَ زُفَرُ:
يَجِبُ بَالِغًا مَا بَلَغَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الصَّيْدَ هُوَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجِبُ الضَّمَانُ الْبَتَّةَ فِي قَتْلِ السَّبُعِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه وَسَلَّمَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه أَنَّهُ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ فِي قَتْلِ الْفَوَاسِقِ الْخَمْسِ وَفِي قَتْلِ الذِّئْبِ حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه الْقُرْآنُ وَالْخَبَرُ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَهُوَ أَنَّ الَّذِي يَحْرُمُ أَكْلُهُ لَيْسَ بِصَيْدٍ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُضْمَنَ، إِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ لَيْسَ بِصَيْدٍ لِأَنَّ الصَّيْدَ مَا يَحِلُّ أَكْلُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً [المائدة: ٩٦] فَهَذَا يَقْتَضِي حِلَّ صَيْدِ الْبَحْرِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَحِلَّ صَيْدِ الْبَرِّ خَارِجَ وَقْتِ الْإِحْرَامِ، فَثَبَتَ أَنَّ الصَّيْدَ مَا يَحِلُّ أَكْلُهُ وَالسَّبُعُ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ صَيْدًا، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِصَيْدٍ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مَضْمُونًا، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الضَّمَانِ، تَرَكْنَا الْعَمَلَ بِهِ فِي ضَمَانِ الصَّيْدِ بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَبَقِيَ فِيمَا لَيْسَ بِصَيْدٍ عَلَى وَفْقِ الْأَصْلِ، وَأَمَّا الْخَبَرُ فَهُوَ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ وَهُوَ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «خَمْسُ فَوَاسِقَ لَا جُنَاحَ عَلَى الْمُحْرِمِ أَنْ يَقْتُلَهُنَّ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ الْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ وَالْحَيَّةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: وَالسَّبُعُ الضَّارِي،
وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ
قَوْلَهُ: وَالسَّبُعُ الضَّارِي
نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَصَفَهَا بكونها فواسق ثم حكى بِحِلِّ قَتْلِهَا، وَالْحُكْمُ الْمَذْكُورُ عَقِيبَ الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ مُشْعِرٌ بِكَوْنِ الْحُكْمِ مُعَلَّلًا بِذَلِكَ الْوَصْفِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَوْنَهَا فَوَاسِقَ عِلَّةٌ لِحِلِّ قَتْلِهَا، وَلَا مَعْنَى لِكَوْنِهَا فَوَاسِقَ إِلَّا كَوْنُهَا مُؤْذِيَةً، وَصِفَةُ الْإِيذَاءِ فِي السِّبَاعِ أَقْوَى فَوَجَبَ جَوَازُ قَتْلِهَا، وَثَالِثُهَا: أَنَّ الشَّارِعَ خَصَّهَا بِإِبَاحَةِ الْقَتْلِ، وَإِنَّمَا خَصَّهَا بِهَذَا الْحُكْمِ لِاخْتِصَاصِهَا بِمَزِيدِ الْإِيذَاءِ، وَصِفَةُ الْإِيذَاءِ فِي السِّبَاعِ أَتَمُّ، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِجَوَازِ قَتْلِهَا. وَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ قَتْلِهَا وَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ مَضْمُونَةً لِمَا بَيَّنَاهُ فِي الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ.