للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالْغَرَضُ مِنْهُ تَعْظِيمُ الْوَعِيدِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا عَايَنُوا مَا يُعَذَّبُونَ بِهِ مِنْ دِرْهَمٍ أَوْ مِنْ دِينَارٍ أَوْ مِنْ صَفِيحَةٍ مَعْمُولَةٍ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا جَوَّزُوا فِيهِ أَنْ يَكُونَ عَنِ الْحَقِّ الَّذِي مَنَعَهُ وَجَوَّزُوا خِلَافَ ذَلِكَ، فَعَظَّمَ اللَّهُ تَبْكِيتَهُمْ بِأَنْ يُقَالَ لَهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ لَمْ تُؤْثِرُوا بِهِ رِضَا رَبِّكُمْ وَلَا قَصَدْتُمْ بِالْإِنْفَاقِ مِنْهُ نَفْعَ أَنْفُسِكُمْ وَالْخَلَاصَ بِهِ مِنْ عِقَابِ رَبِّكُمْ فَصِرْتُمْ كَأَنَّكُمُ ادَّخَرْتُمُوهُ لِيُجْعَلَ عِقَابًا لَكُمْ عَلَى مَا تُشَاهِدُونَهُ، ثُمَّ يَقُولُ تَعَالَى: فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ وَمَعْنَاهُ لَمْ تَصْرِفُوهُ لِمَنَافِعِ دِينِكُمْ وَدُنْيَاكُمْ عَلَى مَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ بِهِ فَذُوقُوا وَبَالَ ذَلِكَ بِهِ لا بغيره.

[[سورة التوبة (٩) : آية ٣٦]]

إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ] اعْلَمْ أَنَّ هَذَا شَرْحُ النَّوْعِ الثَّالِثِ مِنْ قَبَائِحِ أَعْمَالِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ إِقْدَامُهُمْ عَلَى السَّعْيِ فِي تَغْيِيرِهِمْ أَحْكَامَ اللَّهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَمَ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِحُكْمٍ خَاصٍّ، فَإِذَا غَيَّرُوا تِلْكَ الْأَحْكَامَ بِسَبَبِ النَّسِيءِ فَحِينَئِذٍ كَانَ ذَلِكَ سَعْيًا مِنْهُمْ فِي تَغْيِيرِ حُكْمِ السُّنَّةِ بِحَسَبَ أَهْوَائِهِمْ وَآرَائِهِمْ فَكَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي كُفْرِهِمْ وَحَسْرَتِهِمْ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ السَّنَةَ عِنْدَ الْعَرَبِ عِبَارَةٌ عَنِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا مِنَ الشُّهُورِ الْقَمَرِيَّةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ [يُونُسَ: ٥] فَجَعَلَ تَقْدِيرَ الْقَمَرِ بِالْمَنَازِلِ عِلَّةً لِلسِّنِينَ وَالْحِسَابِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا كَانَتِ السَّنَةُ مُعَلَّقَةً بِسَيْرِ الْقَمَرِ، وَأَيْضًا قَالَ تَعَالَى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [الْبَقَرَةِ: ١٨٩] وَعِنْدَ سَائِرِ الطَّوَائِفِ: عِبَارَةٌ عَنِ الْمُدَّةِ الَّتِي تَدُورُ الشَّمْسُ فِيهَا دَوْرَةً تَامَّةً، وَالسَّنَةُ الْقَمَرِيَّةُ أَقَلُّ مِنَ السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ بِمِقْدَارٍ مَعْلُومٍ، وَبِسَبَبِ ذَلِكَ النُّقْصَانِ تَنْتَقِلُ الشُّهُورُ الْقَمَرِيَّةُ مِنْ فَصْلٍ إِلَى فَصْلٍ، فَيَكُونُ الْحَجُّ وَاقِعًا فِي الشِّتَاءِ مَرَّةً، وَفِي الصَّيْفِ أُخْرَى، وَكَانَ يَشُقُّ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ بِهَذَا السَّبَبِ، وَأَيْضًا إِذَا حَضَرُوا الْحَجَّ حَضَرُوا لِلتِّجَارَةِ، فَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ الْوَقْتُ غَيْرَ مُوَافِقٍ لِحُضُورِ التِّجَارَاتِ مِنَ الْأَطْرَافِ، وَكَانَ يُخِلُّ أَسْبَابَ تِجَارَاتِهِمْ بِهَذَا السَّبَبِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَقْدَمُوا عَلَى عَمَلِ الْكَبِيسَةِ عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي عِلْمِ الزِّيجَاتِ، وَاعْتَبَرُوا السَّنَةَ الشَّمْسِيَّةَ، وَعِنْدَ ذَلِكَ بَقِيَ زَمَانُ الْحَجِّ مُخْتَصًّا بِوَقْتٍ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ مُوَافِقٍ لِمَصْلَحَتِهِمْ وَانْتَفَعُوا بِتِجَارَاتِهِمْ وَمَصَالِحِهِمْ، فَهَذَا النَّسِيءُ وَإِنْ كَانَ سَبَبًا لِحُصُولِ الْمَصَالِحِ الدُّنْيَوِيَّةِ، إِلَّا أَنَّهُ لَزِمَ مِنْهُ تَغَيُّرُ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَصَّ الْحَجَّ بِأَشْهُرٍ مَعْلُومَةٍ عَلَى التَّعْيِينِ، وَكَانَ بِسَبَبِ ذَلِكَ النَّسِيءِ، يَقَعُ فِي سَائِرِ الشُّهُورِ تَغَيُّرُ حُكْمِ اللَّهِ وَتَكْلِيفِهِ. فَالْحَاصِلُ: أَنَّهُمْ لِرِعَايَةِ مَصَالِحِهِمْ فِي الدُّنْيَا سَعَوْا فِي تَغْيِيرِ أَحْكَامِ اللَّهِ وَإِبْطَالِ تَكْلِيفِهِ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى اسْتَوْجَبُوا الذَّمَّ الْعَظِيمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ السَّنَةَ الشَّمْسِيَّةَ لَمَّا كَانَتْ زَائِدَةً عَلَى السَّنَةِ الْقَمَرِيَّةِ جَمَعُوا تِلْكَ الزِّيَادَةَ، فَإِذَا بَلَغَ مِقْدَارُهَا إِلَى شَهْرٍ جَعَلُوا تِلْكَ السَّنَةَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ شَهْرًا، فَأَنْكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ: إِنَّ حُكْمَ اللَّهِ أَنْ تَكُونَ السَّنَةُ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا لَا أَقَلَّ وَلَا أَزْيَدَ، وَتَحَكُّمُهُمْ عَلَى بَعْضِ السِّنِينَ، أَنَّهُ صَارَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ شَهْرًا حُكْمٌ وَاقِعٌ عَلَى خِلَافِ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيُوجِبُ تَغْيِيرَ تَكَالِيفِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الدِّينِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ الْعَرَبِ مِنَ الزَّمَانِ الْأَوَّلِ أَنْ تَكُونَ السَّنَةُ قَمَرِيَّةً لَا شَمْسِيَّةً، وهذا حكم تورثوه عن إبراهيم

<<  <  ج: ص:  >  >>