وَالْجَوَابُ: لِيُفِيدَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ مَا يَكْتَسِبُ بِهِ هَذَا الْوَصْفَ الشَّنِيعَ، وَلِذَلِكَ أَكَّدَهُ بِالْبَاءِ المؤكد للنفي. ثم قال تعالى:
[[سورة المائدة (٥) : آية ٢٩]]
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩)
وَفِيهِ سُؤَالَانِ:
الْأَوَّلُ: كَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يَبُوءَ الْقَاتِلُ بِإِثْمِ الْمَقْتُولِ مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى.
[فَاطِرٍ: ١٨] .
وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا وَابْنُ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ: مَعْنَاهُ تَحْمِلُ إِثْمَ قَتْلِي وَإِثْمَكَ الَّذِي كَانَ مِنْكَ قَبْلَ قَتْلِي، وَهَذَا بِحَذْفِ الْمُضَافِ، وَالثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ:
مَعْنَاهُ تَرْجِعُ إِلَى اللَّه بإثم قتلي وإثمك الذي من أجله لم يتقبل قربانك.
السؤال الثاني: كما لا يجوز للإنسان أن يريد من نفسه أن يعصي اللَّه تعالى فكذلك لا يجوز أن يريد من غيره أن يعصي اللَّه، فَلِمَ قَالَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ.
وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ إِنَّمَا دَارَ بَيْنَهُمَا عند ما غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمَقْتُولِ أَنَّهُ يُرِيدُ قَتْلَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ إِقْدَامِ الْقَاتِلِ عَلَى إِيقَاعِ الْقَتْلِ بِهِ، وَكَأَنَّهُ لَمَّا وَعَظَهُ وَنَصَحَهُ قَالَ لَهُ: وَإِنْ كُنْتَ لَا تَنْزَجِرُ عَنْ هَذِهِ الْكَبِيرَةِ بِسَبَبِ هَذِهِ النَّصِيحَةِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَتَرَصَّدَ قَتْلِي فِي وَقْتٍ أَكُونُ غَافِلًا عَنْكَ وَعَاجِزًا عَنْ دَفْعِكَ، فَحِينَئِذٍ لَا يُمْكِنُنِي أَنْ أَدْفَعَكَ عَنْ قَتْلِي إِلَّا إِذَا قَتَلْتُكَ ابْتِدَاءً بِمُجَرَّدِ الظَّنِّ وَالْحُسْبَانِ، وَهَذَا مِنِّي كَبِيرَةٌ وَمَعْصِيَةٌ، وَإِذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ أَنَا وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ أَنْتَ، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ تَحْصُلَ هَذِهِ الْكَبِيرَةُ لَكَ لَا لِي، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ إِرَادَةَ صُدُورِ الذَّنْبِ مِنَ الْغَيْرِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَعَلَى هَذَا الشَّرْطِ لَا يَكُونُ حَرَامًا، بَلْ هُوَ عَيْنُ الطَّاعَةِ وَمَحْضُ الْإِخْلَاصِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي فِي الْجَوَابِ: أَنَّ الْمُرَادَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِعُقُوبَةِ قَتْلِي، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَظْلُومِ أَنْ يُرِيدَ مِنَ اللَّه عِقَابَ ظَالِمِهِ، وَالثَّالِثُ:
رُوِيَ أَنَّ الظَّالِمَ إِذَا لَمْ يَجِدْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا يُرْضِي خَصْمَهُ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ الْمَظْلُومِ وَحُمِلَ عَلَى الظَّالِمِ،
فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أن يقال: إني أريد أن تبوأ بِإِثْمِي فِي أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا لَمْ تَجِدْ مَا يُرْضِينِي، وَبِإِثْمِكَ فِي قَتْلِكَ إِيَّايَ، وَهَذَا يَصْلُحُ جَوَابًا عَنِ السُّؤَالِ الأول واللَّه أعلم، ثم قال تعالى:
[[سورة المائدة (٥) : آية ٣٠]]
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠)
ثُمَّ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: سَهَّلَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ شَجَّعَتْهُ، وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا تَصَوَّرَ مِنَ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ كَوْنَهُ مِنْ أَعْظَمِ الْكَبَائِرِ، فَهَذَا الِاعْتِقَادُ يَصِيرُ صَارِفًا لَهُ عَنْ فِعْلِهِ، فَيَكُونُ هَذَا الْفِعْلُ كَالشَّيْءِ الْعَاصِي الْمُتَمَرِّدِ عَلَيْهِ الَّذِي لَا يُطِيعُهُ بِوَجْهٍ الْبَتَّةَ، فَإِذَا أَوْرَدَتِ النَّفْسُ أَنْوَاعَ وَسَاوِسِهَا صَارَ هَذَا الْفِعْلُ سَهْلًا عَلَيْهِ، فَكَأَنَّ النَّفْسَ جَعَلَتْ بِوَسَاوِسِهَا الْعَجِيبَةِ هَذَا الْفِعْلَ كَالْمُطِيعِ لَهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ كَالْعَاصِي الْمُتَمَرِّدِ عَلَيْهِ.
فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لَوْ كَانَ خَالِقُ الْكُلِّ هُوَ اللَّه تَعَالَى لَكَانَ ذَلِكَ التَّزْيِينُ وَالتَّطْوِيعُ مُضَافًا إِلَى اللَّه تَعَالَى لَا إِلَى النَّفْسِ.