للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَهُوَ مُنَاسِبٌ فَإِنَّ مَنْ عَمِلَ لِسَيِّدٍ كَرِيمٍ عَمَلًا، فَعِنْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْعَمَلِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُنْعِمَ عَلَيْهِ إِنْعَامًا وَيُطْعِمَهُ طَعَامًا، وَوَصْفُ الرِّزْقِ بِالْكَرِيمِ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ بِمَعْنَى ذِي كَرَمٍ أَوْ مُكْرِمٍ، أَوْ لِأَنَّهُ يَأْتِي مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ بِخِلَافِ رِزْقِ الدُّنْيَا، فَإِنَّهُ مَا لَمْ يَطْلُبْ وَيَتَسَبَّبْ فِيهِ لَا يَأْتِي، وَفِي التَّفْسِيرِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لَهُمْ ذَلِكَ جَزَاءً فَيُوصِلُهُ إِلَيْهِمْ لِقَوْلِهِ: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا، وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لَهُمْ وَاللَّهُ يَجْزِيهِمْ بِشَيْءٍ آخَرَ لِأَنَّ قَوْلَهُ:

أُولئِكَ لَهُمْ جُمْلَةٌ تَامَّةٌ اسْمِيَّةٌ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي الْبِشَارَةِ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ. لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا رِزْقًا.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اللَّامُ فِي لِيَجْزِيَ لِلتَّعْلِيلِ، مَعْنَاهُ الْآخِرَةُ لِلْجَزَاءِ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ؟

فَنَقُولُ: اللَّهُ تَعَالَى أَرَادَ أَنْ لَا يَنْقَطِعَ ثَوَابُهُ فَجَعَلَ لِلْمُكَلَّفِ دَارًا بَاقِيَةً لِيَكُونَ ثَوَابُهُ وَاصِلًا إِلَيْهِ دَائِمًا أَبَدًا، وَجَعَلَ قَبْلَهَا دَارًا فِيهَا الْآلَامُ وَالْأَسْقَامُ وَفِيهَا الْمَوْتُ لِيَعْلَمَ الْمُكَلَّفُ مِقْدَارَ مَا يَكُونُ/ فِيهِ فِي الْآخِرَةِ إِذَا نَسَبَهُ إِلَى مَا قَبْلَهَا وَإِذَا نَظَرَ إِلَيْهِ فِي نَفْسِهِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَيَّزَ الرِّزْقَ بِالْوَصْفِ بِقَوْلِهِ كَرِيمٌ وَلَمْ يَصِفِ الْمَغْفِرَةَ وَاحِدَةً هِيَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالرِّزْقُ مِنْهُ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ وَالْحَمِيمُ، وَمِنْهُ الْفَوَاكِهُ وَالشَّرَابُ الطَّهُورُ، فَمَيَّزَ الرِّزْقَ لِحُصُولِ الِانْقِسَامِ فِيهِ، وَلَمْ يميز المغفرة لعدم الانقسام فيها. ثم قال تعالى:

[[سورة سبإ (٣٤) : آية ٥]]

وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥)

لَمَّا بَيَّنَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيَّنَ حَالَ الْكَافِرِينَ، وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا أَيْ بِالْإِبْطَالِ، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَحِينَئِذٍ يَكُونُ هَذَا فِي مُقَابَلَةِ مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: آمَنُوا مَعْنَاهُ صَدَّقُوا وَهَذَا مَعْنَاهُ كَذَّبُوا فَإِنْ قِيلَ مِنْ أَيْنَ عُلِمَ كَوْنُ سَعْيِهِمْ فِي الْإِبْطَالِ مَعَ أَنَّ الْمَذْكُورَ مُطْلَقُ السَّعْيِ؟ فَنَقُولُ فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: مُعاجِزِينَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ حَالٌ مَعْنَاهُ سَعَوْا فِيهَا وَهُمْ يُرِيدُونَ التَّعْجِيزَ وَبِالسَّعْيِ فِي التَّقْرِيرِ وَالتَّبْلِيغِ لَا يَكُونُ السَّاعِي مُعَاجِزًا لِأَنَّ الْقُرْآنَ وَآيَاتِ اللَّهِ مُعْجِزَةٌ فِي نَفْسِهَا لَا حَاجَةَ لَهَا إِلَى أَحَدٍ، وَأَمَّا الْمُكَذِّبُ فَهُوَ آتٍ بِإِخْفَاءِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَيَحْتَاجُ إِلَى السَّعْيِ الْعَظِيمِ وَالْجَدِّ الْبَلِيغِ لِيُرَوِّجَ كَذِبَهُ لَعَلَّهُ يُعْجِزُ الْمُتَمَسِّكَ بِهِ، وَقِيلَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ:

مُعاجِزِينَ أَيْ ظَانِّينَ أَنَّهُمْ يُفَوِّتُونَ اللَّهَ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ كَوْنُ السَّاعِي سَاعِيًا بِالْبَاطِلِ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ، وَلَهُمْ عَذَابٌ فِي مُقَابَلَةِ لَهُمْ رِزْقٌ، وَفِي الْآيَةِ لَطَائِفُ الْأُولَى: قال هاهنا: لَهُمْ عَذابٌ وَلَمْ يَقُلْ يَجْزِيهِمُ اللَّهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ مِنَّا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ يَجْزِيهِمْ بِشَيْءٍ آخَرَ، وَقَوْلُهُ: أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ إِخْبَارٌ عَنْ مُسْتَحَقِّهِمُ الْمُعَدِّ لَهُمْ، وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَاحْتِمَالُ الزِّيَادَةِ هُنَاكَ قَائِمٌ نَظَرًا إِلَى قَوْلِهِ: لِيَجْزِيَ وهاهنا لَمْ يَقُلْ لِيُجَازِيَهُمْ فَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ الثَّانِيَةُ: قَالَ هُنَاكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ ثُمَّ زَادَهُمْ فَقَالَ: وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وهاهنا لَمْ يَقُلْ إِلَّا لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ، وَالْجَوَابُ تَقَدَّمَ فِي مِثْلِهِ الثَّالِثَةُ: قَالَ هُنَاكَ: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَلَمْ يُقَلِّلْهُ بِمِنَ التَّبْعِيضِيَّةِ فَلَمْ يَقُلْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ رزق ولا رزق ن جنس كريم، وقال هاهنا: لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ بِلَفْظَةٍ صَالِحَةٍ لِلتَّبْعِيضِ وَكُلُّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى سَعَةِ الرَّحْمَةِ وَقِلَّةِ الْغَضَبِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا وَالرِّجْزُ قِيلَ أَسْوَأُ الْعَذَابِ، وَعَلَى هَذَا (مِنْ) لِبَيَانِ الْجِنْسِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ خَاتَمٌ مِنْ فِضَّةٍ، وَفِي الْأَلِيمِ قِرَاءَتَانِ الْجَرُّ وَالرَّفْعُ فَالرَّفْعُ

<<  <  ج: ص:  >  >>