للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ

؟ نَقُولُ: النَّجَاةُ هَاهُنَا مَذْكُورَةٌ عَلَى وَجْهٍ أَبْلَغَ مِمَّا ذَكَرَهُ هُنَاكَ لِأَنَّهُ قَالَ: تَجْرِي بِأَعْيُنِنا [القمر: ١٤] أَيْ حِفْظِنَا وَحِفْظُ السَّفِينَةِ حِفْظٌ لِأَصْحَابِهِ وَحِفْظٌ لِأَمْوَالِهِمْ وَدَوَابِّهِمْ وَالْحَيَوَانَاتِ الَّتِي مَعَهُمْ فَقَوْلُهُ:

فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ إِنْجَاءُ الْأَمْوَالِ إِلَّا بِبَيَانٍ آخَرَ وَالْحِكَايَةُ فِي سُورَةِ هُودٍ أَشَدُّ تَفْصِيلًا وَأَتَمُّ فَلِهَذَا قَالَ: قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [هُودٍ: ٤٠] يَعْنِي الْمَحْمُولَ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ [هُودٍ: ٤٤] تَصْرِيحًا بِخَلَاصِ السَّفِينَةِ وَإِشَارَةً إِلَى خَلَاصِ كُلِّ مَنْ فِيهَا وَقَوْلُهُ: آيَةً مَنْصُوبَةٌ عَلَى أَنَّهَا مَفْعُولٌ ثَانٍ لِلتَّرْكِ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْجَعْلِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ حَالٌ فَإِنَّكَ تَقُولُ تَرَكْتُهَا وَهِيَ آيَةٌ وَهِيَ إِنْ لَمْ تَكُنْ عَلَى وَزْنِ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ/ فَهِيَ فِي مَعْنَاهُ كَأَنَّهُ قَالَ: تَرَكْنَاهَا دَالَّةً «١» ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: نَصْبُهَا عَلَى التَّمْيِيزِ لِأَنَّهَا بَعْضُ وُجُوهِ التِّرْكِ كَقَوْلِهِ ضَرَبْتُهُ سَوْطًا.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مُدَّكِرٍ مُفْتَعِلٌ مِنْ ذَكَرَ يَذْكُرُ وَأَصْلُهُ مُذْتَكِرٌ [لَمَّا] كَانَ مَخْرَجُ الذَّالِ قَرِيبًا مِنْ مَخْرَجِ التَّاءِ، وَالْحُرُوفُ الْمُتَقَارِبَةُ الْمَخْرَجِ يَصْعُبُ النُّطْقُ بِهَا عَلَى التَّوَالِي وَلِهَذَا إِذَا نَظَرْتَ إِلَى الذَّالِ مَعَ التَّاءِ عِنْدَ النُّطْقِ تَقْرُبُ الذَّالُ مِنْ أَنْ تَصِيرَ تَاءً وَالتَّاءُ تَقْرُبُ مِنْ أَنْ تَصِيرَ دَالًا فَجُعِلَ التَّاءُ دَالًا ثُمَّ أُدْغِمَتِ الدَّالُ فِيهَا وَمِنْهُمْ مَنْ قَرَأَ عَلَى الْأَصْلِ مُذْتَكِرٌ وَمِنْهُمْ مَنْ قَلَبَ التَّاءَ دَالًا وَقَرَأَ مُذْدَكِرٌ وَمِنَ اللُّغَوِيِّينَ مَنْ يَقُولُ فِي مُدَّكِرٍ مُذْدَكِرٌ فَيَقْلِبُ التَّاءَ وَلَا يُدْغِمُ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ، وَالْمُدَّكِرُ الْمُعْتَبِرُ الْمُتَفَكِّرُ، وَفِي قَوْلِهِ: مُدَّكِرٍ إِمَّا إِشَارَةٌ إِلَى مَا فِي قَوْلِهِ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [الْأَعْرَافِ: ١٧٢] أَيْ هَلْ مَنْ يَتَذَكَّرُ تِلْكَ الْحَالَةَ وَإِمَّا إِلَى وُضُوحِ الْأَمْرِ كَأَنَّهُ حَصَلَ لِلْكُلِّ آيَاتُ اللَّهِ وَنَسُوهَا فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ يَتَذَكَّرُ شَيْئًا مِنْهَا. ثم قال تعالى:

[[سورة القمر (٥٤) : آية ١٦]]

فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٦)

وَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ اسْتِفْهَامًا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنْبِيهًا لَهُ وَوَعْدًا بِالْعَاقِبَةِ وثانيهما: أن يكون عاما تنبيها للخلق ونذر أُسْقِطَ مِنْهُ يَاءُ الْإِضَافَةِ كَمَا حُذِفَ يَاءُ يسري في قوله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ [الْفَجْرِ:

٤] وَذَلِكَ عِنْدَ الْوَقْفِ وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ

[الْعَنْكَبُوتِ: ٥١] وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ [يس: ٤٣] وقوله تعالى: يا عِبادِ فَاتَّقُونِ [الزُّمَرِ: ١٦] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَكْفُرُونِ [الْبَقَرَةِ: ١٥٢] وَقُرِئَ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ: عَذَابِي وَنُذُرِي وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الأولى: ما الذي اقتضى الفاى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَيْفَ كانَ؟ نَقُولُ: أَمَّا إِنْ قُلْنَا إِنَّ الِاسْتِفْهَامَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لَهُ قَدْ عَلِمْتَ أَخْبَارَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ فَكَيْفَ كان أي بعد ما أَحَاطَ بِهِمْ عِلْمُكَ بِنَقْلِهَا إِلَيْكَ، وَأَمَّا إِنْ قُلْنَا الِاسْتِفْهَامُ عَامٌّ فَنَقُولُ لَمَّا قَالَ: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [الْقَمَرِ: ١٥] فَرَضَ وَجُودَهُمْ وَقَالَ: يَا مَنْ يَتَذَكَّرُ، وَعُلِمَ الْحَالُ بِالتَّذْكِيرِ: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ تقديره مدكر كَيْفَ كَانَ عَذَابِي.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَا رَأَوُا الْعَذَابَ وَلَا النُّذُرَ فَكَيْفَ اسْتُفْهِمَ مِنْهُمْ؟ نَقُولُ: أَمَّا عَلَى قَوْلِنَا الِاسْتِفْهَامُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ عُلِمَ لَمَّا عُلِمَ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِنَا عَامٌّ فَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ الِادِّكَارِ وَعَلَى تَقْدِيرِ الِادِّكَارِ يُعْلَمُ الْحَالُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِاسْتِفْهَامٍ وَإِنَّمَا هُوَ إِخْبَارٌ عَنْ عَظَمَةِ الْأَمْرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تعالى: الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ


(١) في الأصل دالا، والمقصود بيان من معنى الآية أي لها دلالة الآية وقوتها.

<<  <  ج: ص:  >  >>