أَقْوَى مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الضَّمِيرِ عَلَى الْفِعْلِيَّةِ، فَإِذَا تَرَكْتُمْ ذَلِكَ الدَّلِيلَ الْقَوِيَّ، فَبِأَنْ تَتْرُكُوا هَذَا الضَّعِيفَ أَوْلَى، فَهَذَا جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْقَوْلِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْأَخْفَشِ قَالَ: الْقِيَاسُ أَنْ يُجْعَلَ الْمَذْكُورُ بَعْدَ كَلِمَةِ «مَا» وَهُوَ قَوْلُكَ: أَحْسَنَ صِلَةً لِمَا، وَيَكُونُ خَبَرُ «مَا» مُضْمَرًا، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ لِأَكْثَرِ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ مِنْهَا أَنَّكَ لَوْ قُلْتَ: الَّذِي أَحْسَنَ زَيْدًا لَيْسَ هُوَ بِكَلَامٍ مُنْتَظِمٍ، وَقَوْلُكَ: مَا أَحْسَنَ زَيْدًا كَلَامٌ مُنْتَظِمٌ وَكَذَا الْقَوْلُ فِي بَقِيَّةِ الْوُجُوهِ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ: أَنَّ كَلِمَةَ «مَا» لِلِاسْتِفْهَامِ وَأَفْعَلَ اسْمٌ، وَهُوَ لِلتَّفْضِيلِ، كَقَوْلِكَ: زَيْدٌ أَحْسَنُ مِنْ عَمْرٍو، وَمَعْنَاهُ أَيُّ شَيْءٍ أَحْسَنُ مِنْ زَيْدٍ فَهُوَ اسْتِفْهَامٌ تَحْتَهُ إِنْكَارٌ أَنَّهُ وُجِدَ شَيْءٌ أَحْسَنُ مِنْهُ، كَمَا يَقُولُ مَنْ أَخْبَرَ عَنْ عِلْمِ إِنْسَانٍ فَأَنْكَرَهُ غَيْرُهُ فَيَقُولُ هَذَا الْمُخْبِرُ: وَمَنْ أَعْلَمُ مِنْ فُلَانٍ؟ إِظْهَارًا مِنْهُ مَا يَدَّعِيهِ مُنَازِعُهُ عَلَى خِلَافِ الْحَقِّ، وَأَنْ لَا يُمْكِنُهُ إِقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ وَيَظْهَرُ عَجْزُهُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ مُطَالَبَتِي إِيَّاهُ بِالدَّلِيلِ، ثُمَّ قَوْلُكَ أَحْسَنُ وَإِنْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا كَمَا فِي قَوْلِكَ: مَا أَحْسَنُ زَيْدٍ إِذَا اسْتَفْهَمْتَ عَنْ أَحْسَنِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ، إِلَّا أَنَّهُ نُصِبَ لِيَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ ذَلِكَ الِاسْتِفْهَامِ وَبَيْنَ هَذَا، فَإِنَّ هُنَاكَ مَعْنَى قَوْلِكَ: مَا أَحْسَنُ زَيْدٍ أَيُّ عُضْوٍ مِنْ زَيْدٍ أَحْسَنُ، وَفِي هَذَا مَعْنَاهُ أَيُّ شَيْءٍ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ فِي الْعَالَمِ أَحْسَنُ مِنْ زَيْدٍ، وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ كَمَا تَرَى، وَاخْتِلَافُ الْحَرَكَاتِ مَوْضُوعٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَعَانِي وَالنَّصْبُ قَوْلُنَا زَيْدًا أَيْضًا لِلْفَرْقِ لِأَنَّهُ هُنَاكَ خَفْضٌ/ لِأَنَّهُ أُضِيفَ أَحْسَنُ إِلَيْهِ، وَنُصِبَ هنا للفرق، وأيضاً ففي كل تفصيل مَعْنَى الْفِعْلِ، وَفِي كُلِّ مَا فُضِّلَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مَعْنَى الْمَفْعُولِ، فَإِنَّ مَعْنَى قَوْلِكَ: زَيْدٌ أَعْلَمُ مِنْ عَمْرٍو، أَنَّ زَيْدًا جَاوَزَ عَمْرًا فِي الْعِلْمِ، فَجُعِلَ هَذَا الْمَعْنَى مُعْتَبَرًا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى الْفَرْقِ.
الْقَوْلُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ بَعْضِ الْكُوفِيِّينَ قَالَ إِنَّ «مَا» لِلِاسْتِفْهَامِ وَأَحْسَنُ فِعْلٌ كَمَا يَقُولُهُ الْبَصْرِيُّونَ، مَعْنَاهُ: أَيُّ شَيْءٍ حَسَّنَ زَيْدًا، كَأَنَّكَ تَسْتَدِلُّ بِكَمَالِ هَذَا الْحُسْنِ عَلَى كَمَالِ فَاعِلِ هَذَا الْحُسْنِ، ثُمَّ تَقُولُ: إِنَّ عَقْلِي لَا يُحِيطُ بِكُنْهِ كَمَالِهِ، فَتَسْأَلُ غَيْرَكَ أَنَّ يَشْرَحَ لَكَ كَمَالَهُ، فَهَذَا جُمْلَةُ مَا قِيلَ فِي هَذَا الْبَابِ.
وَأَمَّا تَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِي أَفْعِلْ بِهِ فَسَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ [مريم: ٣٨] .
[[سورة البقرة (٢) : آية ١٧٦]]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦)
اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ قَوْلَهُ: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَاذَا؟ فَذَكَرُوا وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْوَعِيدِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَمَ عَلَى الَّذِينَ يَكْتُمُونَ الْبَيِّنَاتِ بِالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ، بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الْوَعِيدَ عَلَى ذَلِكَ الْكِتْمَانِ إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فِي صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لِأَجْلِ مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ يُخْفُونَهُ وَيُوقِعُونَ الشُّبْهَةَ فِيهِ، فَلَا جَرَمَ اسْتَحَقُّوا ذَلِكَ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ، ثُمَّ قَدْ تَقَدَّمَ فِي وَعِيدِهِمْ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمُ اشْتَرَوُا الْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ وَثَانِيهَا: اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَثَالِثُهَا: أَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَرَابِعُهَا: أَنَّ اللَّهَ لَا يُزَكِّيهِمْ وَخَامِسُهَا: أَنَّ اللَّهَ لَا يُكَلِّمُهُمْ فَقَوْلُهُ: ذلِكَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَأَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى مجموعها.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute