رَجَعَ عَنْهُ أُزِيلَ عَنْهُ أَثَرُ الْكَرَامَةِ الثَّانِي: ما حد التقوى ومن الأتقى؟ تقول أَدْنَى مَرَاتِبِ التَّقْوَى أَنْ يَجْتَنِبَ الْعَبْدُ الْمَنَاهِيَ وَيَأْتِيَ بِالْأَوَامِرِ وَلَا يَقِرَّ وَلَا يَأْمَنَ إِلَّا عِنْدَهُمَا فَإِنِ اتَّفَقَ أَنِ ارْتَكَبَ مَنْهِيًّا لَا يَأْمَنُ وَلَا يَتَّكِلُ لَهُ بَلْ يُتْبِعُهُ بِحَسَنَةٍ وَيُظْهِرُ عَلَيْهِ نَدَامَةً وَتَوْبَةً، وَمَتَى ارْتَكَبَ مَنْهِيًّا وَمَا تَابَ فِي الْحَالِ وَاتَّكَلَ عَلَى الْمُهْلَةِ فِي الْأَجَلِ وَمَنَعَهُ عَنِ التَّذَاكُرِ طُولُ الْأَمَلِ فَلَيْسَ بِمُتَّقٍ، أَمَّا الْأَتْقَى فَهُوَ الَّذِي يَأْتِي بِمَا أُمِرَ بِهِ وَيَتْرُكُ مَا نُهِيَ عَنْهُ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ خَاشٍ رَبَّهُ لَا يَشْتَغِلُ بِغَيْرِ اللَّهِ، فَيُنَوِّرُ اللَّهُ قَلْبَهُ، فَإِنِ الْتَفَتَ لَحْظَةً إِلَى نَفْسِهِ أَوْ وَلَدِهِ جَعَلَ ذَلِكَ ذَنْبَهُ، وَلِلْأَوَّلِينَ النَّجَاةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا [مَرْيَمَ: ٧٢] وَلِلْآخَرِينَ السَّوْقُ إِلَى الْجَنَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ فَبَيْنَ مَنْ أَعْطَاهُ السُّلْطَانُ بُسْتَانًا وَأَسْكَنَهُ فِيهِ، وَبَيْنَ مَنِ اسْتَخْلَصَهُ لِنَفْسِهِ يَسْتَفِيدُ كُلَّ يَوْمٍ بِسَبَبِ الْقُرْبِ مِنْهُ بَسَاتِينَ وَضِيَاعًا بَوْنٌ عَظِيمٌ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ أَيْ عَلِيمٌ بِظَوَاهِرِكُمْ، يَعْلَمُ أَنْسَابَكُمْ خَبِيرٌ بِبَوَاطِنِكُمْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ أَسْرَارُكُمْ، فَاجْعَلُوا التَّقْوَى عَمَلَكُمْ وزيدوا في التقوى كما زادكم.
[[سورة الحجرات (٤٩) : آية ١٤]]
قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤)
لَمَّا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الْحُجُرَاتِ: ١٣] وَالْأَتْقَى لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ حُصُولِ التَّقْوَى، وَأَصْلُ الْإِيمَانِ هُوَ الِاتِّقَاءُ مِنَ الشِّرْكِ، قَالَتِ الْأَعْرَابُ لَنَا النَّسَبُ الشَّرِيفُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ لَنَا الشَّرَفُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالْقَوْلِ، إِنَّمَا هُوَ بِالْقَلْبِ فَمَا آمَنْتُمْ لِأَنَّهُ خَبِيرٌ يَعْلَمُ مَا فِي الصُّدُورِ، وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا أَيِ انْقَدْنَا وَاسْتَسْلَمْنَا، قِيلَ إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي بَنِي أَسَدٍ، أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ فِي سَنَةٍ مُجْدِبَةٍ طَالِبِينَ الصَّدَقَةَ وَلَمْ يَكُنْ قَلْبُهُمْ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ كَالتَّارِيخِ لِلنُّزُولِ لَا لِلِاخْتِصَاصِ بِهِمْ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ أَظْهَرَ فِعْلَ الْمُتَّقِينَ وَأَرَادَ أَنْ يَصِيرَ لَهُ مَا لِلْأَتْقِيَاءِ مِنَ الْإِكْرَامِ لَا يَحْصُلُ لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ التَّقْوَى مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا فِي تَفْسِيرِهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ تَعَالَى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً [النساء: ٩٤] وقال هاهنا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا مَعَ أَنَّهُمْ أَلْقَوْا إِلَيْهِمُ السَّلَامَ، نَقُولُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ عَمَلَ الْقَلْبِ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَاجْتِنَابَ الظَّنِّ وَاجِبٌ، وَإِنَّمَا يُحْكَمُ بِالظَّاهِرِ فَلَا يُقَالُ لِمَنْ يَفْعَلُ فِعْلًا هُوَ مُرَائِي، وَلَا لِمَنْ أَسْلَمَ هُوَ مُنَافِقٌ، وَلَكِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا فِي الصُّدُورِ، إِذَا قَالَ فُلَانٌ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ حَصَلَ الْجَزْمُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا فَهُوَ الَّذِي جَوَّزَ لَنَا ذَلِكَ الْقَوْلَ، وَكَانَ مُعْجِزَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى الْغَيْبِ وَضَمِيرِ قُلُوبِهِمْ، فَقَالَ لَنَا: أَنْتُمْ لَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا لِعَدَمِ عِلْمِكُمْ بِمَا فِي قَلْبِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَمْ ولما حرفا نفي، وما وإن ولا كذلك من حروف النفي، ولم ولما يَجْزِمَانِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حُرُوفِ النَّفْيِ لَا يَجْزِمُ، فما الفرق بينهما؟ نقول لم ولما يَفْعَلَانِ بِالْفِعْلِ مَا لَا يَفْعَلُ بِهِ غَيْرُهُمَا، فَإِنَّهُمَا يُغَيِّرَانِ مَعْنَاهُ مِنَ الِاسْتِقْبَالِ إِلَى الْمُضِيِّ، تَقُولُ لَمْ يُؤْمِنْ أَمْسِ وَآمَنَ الْيَوْمَ، وَلَا تَقُولُ لَا يُؤْمِنُ أَمْسِ، فَلَمَّا فَعَلَا بِالْفِعْلِ مَا لَمْ يَفْعَلْ بِهِ غَيْرُهُمَا جُزِمَ بِهِمَا، فَإِنْ قِيلَ مَعَ هَذَا لِمَ جُزِمَ بِهِمَا غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الْفَرْقَ حَصَلَ، وَلَكِنْ مَا الدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الْجَزْمِ بِهِمَا؟ نَقُولُ لِأَنَّ الْجَزْمَ وَالْقَطْعَ يَحْصُلُ فِي الْأَفْعَالِ الْمَاضِيَةِ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ قَامَ حَصَلَ الْقَطْعُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute