للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

جَمْعٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: تَعْظِيمُ جَانِبِ اللَّهِ، وَرِعَايَةُ قَلْبِ عِبَادِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ وَهُوَ لَمْ يَعْلَمْ كَوْنَهُمْ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَيَكُونُ الرَّسُولُ قَدْ أَمَّنَهُمْ، فَإِنَّ السَّلَامَ أَمَانٌ وَأَمَانُ الرَّسُولِ أَمَانُ الْمُرْسِلِ فَيَكُونُ فَاعِلًا لِلْأَمْرِ مِنْ غَيْرِ إِذَنِ اللَّهِ نِيَابَةً عَنِ اللَّهِ فَقَالَ أَنْتُمْ سَلَّمْتُمْ عَلَيَّ وَأَنَا مُتَوَقِّفٌ أَمْرِي مُتَارَكَةٌ لَا تَعَلُّقَ بَيْنَنَا إِلَى أَنَّ يَتَبَيَّنَ الْحَالُ وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً [الفرقان: ٦٣] وَقَالَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَعْنَى لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ [الزُّخْرُفِ: ٨٩] وَلَمْ يُقِلْ قُلْ سَلَامًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَخْيَارَ الْمَذْكُورِينَ فِي الْقُرْآنِ لَوْ/ سَلَّمُوا عَلَى الْجَاهِلِينَ لَا يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِحُرْمَةِ التَّعَرُّضِ إِلَيْهِمْ، وَأَمَّا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ لَصَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِحُرْمَةِ التَّعَرُّضِ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: قُلْ سَلَامٌ أَيْ أَمْرِي مَعَكُمْ مُتَارَكَةٌ تَرَكْنَاهُ إِلَى أَنْ يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ بِأَمْرٍ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِنَا بِمَعْنَى نُبَلِّغُ سَلَامًا فَنَقُولُ هُمْ لَمَّا قَالُوا نُبَلِّغُكَ سَلَامًا وَلَمْ يَعْلَمْ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ مِمَّنْ قَالَ سَلَامٌ أَيْ إِنْ كَانَ مِنَ اللَّهِ فَإِنَّ هَذَا مِنْهُ قَدِ ازْدَادَ بِهِ شَرَفِي وَإِلَّا فَقَدْ بَلَغَنِي مِنْهُ سَلَامٌ وَبِهِ شَرَفِي وَلَا أَتَشَرَّفُ بِسَلَامِ غَيْرِهِ، وَهَذَا مَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ وَالْأَوَّلُ وَالثَّانِي عَلَيْهِمَا الِاعْتِمَادُ فَإِنَّهُمَا أَقْوَى وَقَدْ قِيلَ بِهِمَا.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ فِي سُورَةِ هُودٍ فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ [هُودٍ: ٧٠] فَدَلَّ عَلَى أَنَّ إِنْكَارَهُمْ كَانَ حَاصِلًا بعد تقريبه العجل منهم وقال هاهنا قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:

[سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٢٦ الى ٢٧]

فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٢٧)

بِفَاءِ التَّعْقِيبِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ تَقْرِيبَ الطَّعَامِ مِنْهُمْ بَعْدَ حُصُولِ الْإِنْكَارِ لَهُمْ، فَمَا الْوَجْهُ فِيهِ؟ نَقُولُ جَازَ أَنْ يَحْصُلَ أَوَّلًا عِنْدَهُ مِنْهُمْ نُكْرٌ ثُمَّ زَادَ عِنْدَ إِمْسَاكِهِمْ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى هَذَا هُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى شَكْلٍ وَهَيْئَةٍ غَيْرَ مَا يَكُونُ عَلَيْهِ النَّاسُ وَكَانُوا فِي أَنْفُسِهِمْ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ مُنْكَرِينَ، وَاشْتَرَكَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَغَيْرُهُ فِيهِ وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ أَنْكَرْتُكُمْ بل قال: أنتم منكرون فِي أَنْفُسِكُمْ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ مِنَّا، ثُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَفَرَّدَ بِمُشَاهَدَةِ أَمْرٍ مِنْهُمْ هُوَ الْإِمْسَاكُ فَنَكِرَهُمْ فَوْقَ مَا كَانَ مِنْهُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكُلِّ لَكِنَّ الْحَالَةَ فِي سُورَةِ هُودٍ مَحْكِيَّةٌ عَلَى وَجْهٍ أَبْسَطَ مِمَّا ذكره هاهنا، فإن هاهنا لم يبين المبشر به، وهناك ذكر باسمه وهو إسحاق، ولم يقل هاهنا إِنَّ الْقَوْمَ قَوْمُ مَنْ وَهُنَاكَ قَالَ قَوْمُ لُوطٍ، وَفِي الْجُمْلَةِ مَنْ يَتَأَمَّلُ السُّورَتَيْنِ يَعْلَمُ أَنَّ الْحِكَايَةَ مَحْكِيَّةٌ هُنَاكَ عَلَى وَجْهِ الْإِضَافَةِ أَبْسَطَ، فَذَكَرَ فِيهَا النُّكْتَةَ الزَّائِدَةَ، وَلَمْ يَذْكُرْ هاهنا وَلْنَعُدْ إِلَى بَيَانِ مَا أَتَى بِهِ مِنْ آدَابِ الْإِضَافَةِ وَمَا أَتَوْا بِهِ مِنْ آدَابِ الضِّيَافَةِ، فَالْإِكْرَامُ أَوَّلًا مِمَّنْ جَاءَهُ ضَيْفٌ قَبْلَ أَنْ يَجْتَمِعَ بِهِ وَيُسَلِّمَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْإِكْرَامِ وَهِيَ اللِّقَاءُ الْحَسَنُ وَالْخُرُوجُ إِلَيْهِ وَالتَّهَيُّؤُ لَهُ ثُمَّ السَّلَامُ مِنَ الضَّيْفِ عَلَى الْوَجْهِ الْحَسَنِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ النَّصْبُ فِي قَوْلِهِ سَلاماً إِمَّا لِكَوْنِهِ مُؤَكَّدًا بِالْمَصْدَرِ أَوْ لِكَوْنِهِ مُبَلِّغًا مِمَّنْ هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ، ثُمَّ الرَّدُّ الْحَسَنُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الرَّفْعُ وَالْإِمْسَاكُ عَنِ الْكَلَامِ لَا يَكُونُ فِيهِ وَفَاءٌ إن إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بَلْ قَالَ أَمْرِي مُسَالِمَةٌ أَوْ قَوْلُكُمْ سَلَامٌ وَسَلَامُكُمْ مُنْكَرٌ فَإِنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مُخِلًّا بِالْإِكْرَامِ، لَكِنَّ الْعُذْرَ لَيْسَ مِنْ شِيَمِ الْكِرَامِ وَمَوَدَّةُ أَعْدَاءِ اللَّهِ لَا تَلِيقُ بِالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ ثُمَّ تَعْجِيلُ الْقِرَى الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ [هُودٍ: ٦٩] وقوله هاهنا فَراغَ فَإِنَّ الرَّوَغَانَ يَدُلُّ عَلَى السُّرْعَةِ وَالرَّوْغِ الَّذِي بِمَعْنَى النَّظَرِ الْخَفِيِّ أَوِ الرَّوَاحِ الْمَخْفِيِّ أَيْضًا كَذَلِكَ، ثُمَّ الْإِخْفَاءُ فَإِنَّ الْمُضِيفَ إِذَا

<<  <  ج: ص:  >  >>