للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَوْلٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ إِبْلِيسَ لَمَّا قَالَ: إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر: ٤٠] فَذَكَرَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِغْوَاءِ الْمُخْلِصِينَ صَدَّقَهُ اللَّهُ فِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ فَقَالَ: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ فَلِهَذَا قَالَ الْكَلْبِيُّ: الْعِبَادُ الْمَذْكُورُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُمُ الَّذِينَ اسْتَثْنَاهُمْ إِبْلِيسُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ اسْتِثْنَاءً، لِأَنَّ الْمَعْنَى: أَنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ فَإِنَّ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا بِسَبَبِ كَوْنِهِمْ مُنْقَادِينَ لَكَ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ.

وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً، بَلْ تَكُونُ لَفْظَةُ (إلا) بمعنى لكن، وقوله: إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ إِبْلِيسَ وَأَشْيَاعَهُ، وَمَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْغَاوِينَ.

ثم قال تَعَالَى: لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ وَفِيهِ قَوْلَانِ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: إِنَّهَا سَبْعُ طَبَقَاتٍ: بَعْضُهَا فَوْقَ الْبَعْضِ وَتُسَمَّى تِلْكَ الطَّبَقَاتُ بِالدَّرَكَاتِ، وَيَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا كَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النِّسَاءِ: ١٤٥] .

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ قَرَارَ جَهَنَّمَ مَقْسُومٌ سَبْعَةَ أَقْسَامٍ: وَلِكُلِّ قِسْمٍ بَابٌ، وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أَوَّلُهَا: جَهَنَّمُ. ثُمَّ لَظَى. ثُمَّ الْحُطَمَةُ. ثُمَّ السَّعِيرُ. ثُمَّ سَقَرُ. ثُمَّ الْجَحِيمُ. ثُمَّ الْهَاوِيَةُ. قَالَ الضَّحَّاكُ: الطَّبَقَةُ الْأُولَى: فِيهَا أَهْلُ التَّوْحِيدِ يُعَذَّبُونَ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ ثُمَّ يُخْرَجُونَ. وَالثَّانِيَةُ: لِلْيَهُودِ. وَالثَّالِثَةُ: لِلنَّصَارَى. وَالرَّابِعَةُ: لِلصَّابِئِينَ.

وَالْخَامِسَةُ: لِلْمَجُوسِ. وَالسَّادِسَةُ: لِلْمُشْرِكِينَ. وَالسَّابِعَةُ: لِلْمُنَافِقِينَ. وَقَوْلُهُ: لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ: جُزْءٌ مَقْسُومٌ وَالْبَاقُونَ (جَزْ) بِتَخْفِيفِ الزَّايِ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ: (جَزٌّ) بِالتَّشْدِيدِ، كَأَنَّهُ حَذَفَ الْهَمْزَةَ وَأَلْقَى حَرَكَتَهَا عَلَى الزَّايِ، كَقَوْلِكَ: خَبَّ/ فِي خَبْءٍ، ثُمَّ وَقَفَ عَلَيْهِ بِالتَّشْدِيدِ.

المسألة الثَّانِيَةُ: الْجُزْءُ بَعْضُ الشَّيْءِ، وَالْجَمْعُ الْأَجْزَاءُ، وَجَزَّأْتُهُ جَعَلْتُهُ أَجْزَاءً. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى يجزي أَتْبَاعَ إِبْلِيسَ أَجْزَاءً، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَجْعَلُهُمْ أَقْسَامًا وَفِرَقًا، وَيُدْخِلُ فِي كُلِّ قِسْمٍ مِنْ أَقْسَامِ جَهَنَّمَ طَائِفَةً مِنْ هَؤُلَاءِ الطَّوَائِفِ. وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ مَرَاتِبَ الْكُفْرِ مُخْتَلِفَةٌ بِالْغِلَظِ وَالْخِفَّةِ، فَلَا جَرَمَ صَارَتْ مَرَاتِبُ الْعَذَابِ وَالْعِقَابِ مُخْتَلِفَةً بِالْغِلَظِ والخفة، والله أعلم.

[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٤٥ الى ٤٨]

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧) لَا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (٤٨)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ أَحْوَالَ أَهْلِ الْعِقَابِ أَتْبَعَهُ بِصِفَةِ أَهْلِ الثَّوَابِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ قَوْلَانِ:

<<  <  ج: ص:  >  >>