للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مكلمك أنا واللَّه بيان لأنا والعزيز الْحَكِيمُ صِفَتَانِ (لِلتَّعْيِينِ) «١» وَهَذَا تَمْهِيدٌ لِمَا أَرَادَ أَنْ يُظْهِرَهُ عَلَى يَدِهِ مِنَ الْمُعْجِزَةِ يُرِيدُ أَنَا الْقَوِيُّ الْقَادِرُ عَلَى مَا يَبْعُدُ مِنَ الأوهام كقلب العصا حية، الفاعل [كل] «٢» مَا أَفْعَلُهُ بِحِكْمَةٍ وَتَدْبِيرٍ. فَإِنْ قِيلَ هَذَا النِّدَاءُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّه تَعَالَى، فَكَيْفَ عَلِمَ مُوسَى/ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ مِنَ اللَّه؟

جَوَابُهُ: لِأَهْلِ السُّنَّةِ فِيهِ طَرِيقَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ سَمِعَ الْكَلَامَ الْمُنَزَّهَ عَنْ مُشَابَهَةِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ فَعَلِمَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ صِفَةُ اللَّه تَعَالَى الثَّانِي: قَوْلُ أَئِمَّةِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ وَهُوَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَمِعَ الصَّوْتَ مِنَ الشَّجَرَةِ فَنَقُولُ إِنَّمَا عَرَفَ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّه تَعَالَى لِأُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ النِّدَاءَ إِذَا حَصَلَ فِي النَّارِ أَوِ الشَّجَرَةِ عُلِمَ أَنَّهُ مِنْ قِبَلِ اللَّه تَعَالَى لِأَنَّ أَحَدًا منا لا يقدر عليه وهو ضعف لِاحْتِمَالِ أَنْ يُقَالَ الشَّيْطَانُ دَخَلَ فِي النَّارِ وَالشَّجَرَةِ ثُمَّ نَادَى وَثَانِيهَا: يَجُوزُ فِي نَفْسِ النِّدَاءِ أَنْ يَكُونَ قَدْ بَلَغَ فِي الْعِظَمِ مَبْلَغًا لَا يَكُونُ إِلَّا مُعْجِزًا، وَهُوَ أَيْضًا ضَعِيفٌ لِأَنَّا لَا نَعْرِفُ مَقَادِيرَ قُوَى الْمَلَائِكَةِ وَالشَّيَاطِينِ فَلَا قَدْرَ إِلَّا وَيَجُوزُ صُدُورُهُ مِنْهُمْ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ قَدِ اقْتَرَنَ بِهِ مُعْجِزٌ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ، فَقِيلَ إِنَّ النَّارَ كَانَتْ مُشْتَعِلَةً فِي شَجَرَةٍ خَضْرَاءَ لَمْ تَحْتَرِقْ فَصَارَ ذَلِكَ كالمعجز، وهذا هو الأصح واللَّه أعلم.

[سورة النمل (٢٧) : الآيات ١٠ الى ١٤]

وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (١٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٤)

اعْلَمْ أَنَّ أكثر ما في هذا الْآيَاتِ قَدْ مَرَّ شَرْحُهُ، وَلْنَذْكُرْ مَا هُوَ مِنْ خَوَاصِّ هَذَا الْمَوْضِعِ: يُقَالُ عَلَامَ عَطَفَ قوله: وَأَلْقِ عَصاكَ؟ جوابه: على بُورِكَ [النمل: ٨] لِأَنَّ الْمَعْنَى: نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النار وأن ألق عصاك، كلاهما تفسير لنودي.

أَمَّا قَوْلُهُ: كَأَنَّها جَانٌّ فَالْجَانُّ الْحَيَّةُ الصَّغِيرَةُ، سُمِّيَتْ جَانًّا، لِأَنَّهَا تَسْتَتِرُ عَنِ النَّاسِ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ جَانٌ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَهْرُبُ مِنَ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، فَيَقُولُ شَابَةٌ وَدَابَةٌ.

أَمَّا قَوْلُهُ: وَلَمْ يُعَقِّبْ مَعْنَاهُ لَمْ يَرْجِعْ، يُقَالُ عَقَّبَ الْمُقَاتِلُ إِذَا (مَرَّ) «٣» بَعْدَ الْفِرَارِ، وَإِنَّمَا خَافَ لِظَنِّهِ أَنَّ ذَلِكَ لِأَمْرٍ أُرِيدَ بِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ إِنِّي لَا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ إِنِّي إِذَا أَمَرْتُهُمْ بِإِظْهَارِ مُعْجِزٍ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَخَافُوا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِإِظْهَارِ ذَلِكَ وَإِلَّا فَالْمُرْسِلُ قَدْ يَخَافُ لَا مَحَالَةَ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ مَعْنَاهُ لَكِنْ مَنْ ظُلِمَ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَصْدُرُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَنْ تَرْكِ الْأَفْضَلِ أَوِ الصَّغِيرَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّعْرِيضَ بِمَا وُجِدَ مِنْ مُوسَى وَهُوَ مِنَ التَّعْرِيضَاتِ اللَّطِيفَةِ.

قَالَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّه: كَانَ واللَّه مُوسَى مِمَّنْ ظَلَمَ بِقَتْلِ الْقِبْطِيِّ ثُمَّ بَدَّلَ، فإنه عليه السلام قال:


(١) في الكشاف (للمبين) ٣/ ١٣٨ ط. دار الفكر.
(٢) زيادة من الكشاف.
(٣) في الكشاف (كرّ) .

<<  <  ج: ص:  >  >>