للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: حَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ الْقَوْمَ طَلَبُوا مِنَ الرَّسُولِ مُعْجِزَاتٍ قَوِيَّةً وَحَلَفُوا أَنَّهَا لَوْ ظَهَرَتْ لَآمَنُوا فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ وَإِنْ حَلَفُوا عَلَى ذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِأَنَّهَا لَوْ ظَهَرَتْ لَمْ يُؤْمِنُوا وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَمْ يَجِبْ فِي الْحِكْمَةِ إِجَابَتُهُمْ إِلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ. قَالَ الْجُبَّائِيُّ وَالْقَاضِي: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ مُتَعَلِّقَةٍ بِنُصْرَةِ الِاعْتِزَالِ.

الْحَكَمُ الْأَوَّلُ:

أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي الْمَعْلُومِ لُطْفٌ يُؤْمِنُونَ عِنْدَهُ لَفَعَلَهُ لَا مَحَالَةَ إِذْ لَوْ جَازَ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْجَوَابِ فَائِدَةٌ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ تَعَالَى لَا يُجِيبُهُمْ إِلَى مَطْلُوبِهِمْ سَوَاءٌ آمَنُوا أَوْ لَمْ يُؤْمِنُوا لَمْ يَكُنْ تَعْلِيقُ تَرْكِ الْإِجَابَةِ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ عِنْدَهُ مُنْتَظِمًا مُسْتَقِيمًا فَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ كُلَّ مَا هُوَ فِي مَقْدُورِهِ مِنَ الْأَلْطَافِ وَالْحِكْمَةِ.

الْحُكْمُ الثَّانِي:

أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ لَوْ كَانَ لِإِظْهَارِ هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ أَثَرٌ فِي حَمْلِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ وَعَلَى قَوْلِ الْمُجْبِرَةِ ذَلِكَ بَاطِلٌ لِأَنَّ عِنْدَهُمُ الْإِيمَانَ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا خَلَقَهُ حَصَلَ وَإِذَا لَمْ يخلقه لم يحصل فلم يكن لفعل الألطاف اثر في حمل المكلف على الطاعات.

وأقول هذا الذي قاله القاضي غير لازم. اما الاول: فلان القوم قالوا: لو جئتنا يا محمد بآية لآمنا بك فهذا الكلام في الحقيقة مشتمل على مقدمتين: إحداهما: انك لو جئتنا بهذه المعجزات لآمنا بك. والثانية: انه متى كان الأمر كذلك وجب عليك ان تأتينا بها والله تعالى كذبهم في المقام الاول وبين انه تعالى وان أظهرها لهم فهم لا يؤمنون ولم يتعرض البتة للمقام الثاني وَلَكِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ بَاقٍ.

فَإِنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَبْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ عِنْدَ إِظْهَارِ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ فَلِمَ لَمْ يَجِبْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى إِظْهَارُهَا؟ اللَّهُمَّ إِلَّا إِذَا ثَبَتَ قَبْلَ هَذَا الْبَحْثِ أَنَّ اللُّطْفَ وَاجِبٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ هَذَا الْمَطْلُوبُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ جَعَلَ هَذِهِ الْآيَةَ دَلِيلًا عَلَى وُجُوبِ اللُّطْفِ فَثَبَتَ أَنَّ كَلَامَهُ ضَعِيفٌ.

وَأَمَّا الْبَحْثُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ: إِذَا كَانَ الْكُلُّ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ لِهَذِهِ الْأَلْطَافِ أَثَرٌ فِيهِ فَنَقُولُ: الَّذِي نَقُولُ بِهِ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي الْفِعْلِ هُوَ مَجْمُوعُ الْقُدْرَةِ مَعَ الدَّاعِي وَالْعِلْمُ بِحُصُولِ هَذَا اللُّطْفِ أَحَدُ أَجْزَاءِ الدَّاعِي وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ. فَيَكُونُ لهذا اللطف اثر في حصول الفعل.

[[سورة الأنعام (٦) : آية ١١٠]]

وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠)

هَذَا أَيْضًا مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى قَوْلِنَا: إِنَّ الْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ وَالتَّقَلُّبَ وَالْقَلْبَ وَاحِدٌ وَهُوَ تَحْوِيلُ الشَّيْءِ عَنْ وَجْهِهِ وَمَعْنَى تَقْلِيبِ الْأَفْئِدَةِ وَالْأَبْصَارِ: هُوَ أَنَّهُ إِذَا جَاءَتْهُمُ الْآيَاتُ الْقَاهِرَةُ الَّتِي اقْتَرَحُوهَا وَعَرَفُوا كَيْفِيَّةَ دَلَالَتِهَا عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى إِذَا قَلَّبَ قُلُوبَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ عَنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ الصَّحِيحِ بقوا

<<  <  ج: ص:  >  >>