للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ذِكْرُهُ، وَكَانَ يَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ أَنَّ ذَلِكَ القتال لا يزول وَإِنِ انْتَهَوْا وَتَابُوا كَمَا ثَبَتَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْحُدُودِ أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تُزِيلُهُ، فَقَالَ تعالى بعد ما أَوْجَبَ الْقَتْلَ عَلَيْهِمْ: فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ بَيَّنَ بِهَذَا أَنَّهُمْ مَتَى انْتَهَوْا عَنْ ذَلِكَ سَقَطَ وُجُوبُ الْقَتْلِ عَنْهُمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا/ يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الْأَنْفَالِ: ٣٨] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَإِنِ انْتَهَوْا عَنِ الْقِتَالِ وَقَالَ الْحَسَنُ: فَإِنِ انْتَهَوْا عَنِ الشِّرْكِ.

حُجَّةُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْإِذْنِ فِي الْقِتَالِ مَنْعُ الْكُفَّارِ عَنِ الْمُقَاتَلَةِ فَكَانَ قَوْلُهُ: فَإِنِ انْتَهَوْا مَحْمُولًا عَلَى تَرْكِ الْمُقَاتَلَةِ.

حُجَّةُ الْقَوْلِ الثَّانِي: أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَنَالُ غُفْرَانَ اللَّهِ وَرَحْمَتَهُ بِتَرْكِ الْقِتَالِ، بَلْ بِتَرْكِ الْكُفْرِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الِانْتِهَاءُ عَنِ الْكُفْرِ لَا يَحْصُلُ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا بِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: التَّوْبَةُ وَالْآخَرُ التَّمَسُّكُ بِالْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُقَالُ فِي الظَّاهِرِ لِمَنْ أَظْهَرَ الشَّهَادَتَيْنِ: إِنَّهُ انْتَهَى عَنِ الْكُفْرِ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي حَقْنِ الدَّمِ فَقَطْ. أَمَّا الَّذِي يُؤَثِّرُ فِي اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ وَالْغُفْرَانِ والرحمة فَلَيْسَ إِلَّا مَا ذَكَرْنَا.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ مَقْبُولَةٌ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: التَّوْبَةُ عَنِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ خَطَأٌ، لِأَنَّ الشِّرْكَ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ، فَإِذَا قَبِلَ اللَّهُ تَوْبَةَ الْكَافِرِ فَقَبُولُ تَوْبَةِ الْقَاتِلِ أَوْلَى، وَأَيْضًا فَالْكَافِرُ قَدْ يَكُونُ بِحَيْثُ جَمَعَ مَعَ كَوْنِهِ كَافِرًا كَوْنَهُ قَاتِلًا. فَلَمَّا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى قَبُولِ تَوْبَةِ كُلِّ كَافِرٍ دَلَّ عَلَى أَنَّ تَوْبَتَهُ إِذَا كان قاتلا مقبولا والله أعلم.

[[سورة البقرة (٢) : آية ١٩٣]]

وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣)

فِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْقَوْمُ: هَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ [الْبَقَرَةِ: ١٩١] وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْبِدَايَةَ بِالْمُقَاتَلَةِ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ نَفَتْ حُرْمَتَهُ أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ عَامَّةٌ وَلَكِنْ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ الْعَامَّ سَوَاءٌ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى الْمُخَصَّصِ أَوْ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ فَإِنَّهُ يَصِيرُ مَخْصُوصًا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْمُرَادِ بِالْفِتْنَةِ هاهنا وُجُوهٌ أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا الشِّرْكُ وَالْكُفْرُ، قَالُوا: كَانَتْ فِتْنَتُهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَضْرِبُونَ وَيُؤْذُونَ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ حَتَّى ذَهَبُوا إِلَى الْحَبَشَةِ ثُمَّ وَاظَبُوا عَلَى ذَلِكَ الْإِيذَاءِ حَتَّى ذَهَبُوا إِلَى الْمَدِينَةِ وَكَانَ غَرَضُهُمْ مِنْ إِثَارَةِ تِلْكَ الْفِتْنَةِ أَنْ يَتْرُكُوا دِينَهُمْ وَيَرْجِعُوا كُفَّارًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، وَالْمَعْنَى: قَاتِلُوهُمْ حَتَّى تَظْهَرُوا عَلَيْهِمْ فَلَا يَفْتِنُوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ فَلَا تَقَعُوا فِي الشِّرْكِ وَثَانِيهَا: قَالَ أبو مسلم: معنى الفتنة هاهنا الْجُرْمُ قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ/ بِقِتَالِهِمْ حَتَّى لَا يَكُونَ مِنْهُمُ الْقِتَالُ الَّذِي إِذَا بدءوا بِهِ كَانَ فِتْنَةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لِمَا يَخَافُونَ عِنْدَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَضَارِّ فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُقَالُ: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ مَعَ عِلْمِنَا بِأَنَّ قِتَالَهُمْ لَا يُزِيلُ الْكُفْرَ وَلَيْسَ يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ خَبَرَ اللَّهِ لَا يَكُونُ حَقًّا.

قُلْنَا الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْأَغْلَبِ لِأَنَّ الْأَغْلَبَ عِنْدَ قِتَالِهِمْ زَوَالُ الْكُفْرِ