المسألة الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ يَهْدِي بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الدَّالِ وَالْبَاقُونَ: لَا يُهْدَى بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الدَّالِ.
أَمَّا الْقِرَاءَةُ الْأُولَى: فَفِيهَا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُرْشِدُ أَحَدًا أَضَلَّهُ، وَبِهَذَا فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَالثَّانِي: أَنَّ يَهْدِي بِمَعْنَى يَهْتَدِي. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْعَرَبُ تَقُولُ: قَدْ هَدَى الرَّجُلُ يُرِيدُونَ قَدِ اهْتَدَى، وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ إِذَا أَضَلَّ أَحَدًا لَمْ يَصِرْ ذَلِكَ مُهْتَدِيًا.
وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ: فَالوجه فِيهَا إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ، أَيْ مَنْ يُضِلُّهُ، فَالرَّاجِعُ إِلَى الْمَوْصُولِ الَّذِي هُوَ مَنْ مَحْذُوفٌ مُقَدَّرٌ وَهَذَا كَقَوْلِهِ: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ [الْأَعْرَافِ: ١٨٦] وَكَقَوْلِهِ: فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ [الْجَاثِيَةِ: ٢٣] أَيْ مِنْ بَعْدِ إِضْلَالِ اللَّهِ إِيَّاهُ.
ثم قال تَعَالَى: وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ أي وليس لهم أحد ينصرهم أن يُعِينُهُمْ عَلَى مَطْلُوبِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَأَقُولُ أَوَّلُ هَذِهِ الْآيَاتِ مُوهِمٌ لِمَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَآخِرُهَا مُشْتَمِلٌ عَلَى الْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ الدَّالَّةِ عَلَى قَوْلِنَا، وأكثر الآيات كذلك مشتملة على الوجهين، والله أعلم.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٣٨ الى ٤٠]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٣٨) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (٣٩) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠)
[في قوله تعالى وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إلى قوله أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ] وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الشُّبْهَةُ الرَّابِعَةُ لِمُنْكِرِي النُّبُوَّةِ فَقَالُوا الْقَوْلُ بِالْبَعْثِ وَالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ بَاطِلٌ، فَكَانَ الْقَوْلُ بِالنُّبُوَّةِ بَاطِلًا.
أَمَّا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: فَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ إِلَّا هَذِهِ الْبَيِّنَةَ الْمَخْصُوصَةَ، فَإِذَا مَاتَ وَتَفَرَّقَتْ أَجْزَاؤُهُ وَبَطَلَ ذَلِكَ الْمِزَاجُ وَالِاعْتِدَالُ امْتَنَعَ عَوْدُهُ بِعَيْنِهِ، لِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا عَدِمَ فَقَدْ فَنِيَ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ ذَاتٌ وَلَا حَقِيقَةٌ بَعْدَ فِنَائِهِ وَعَدَمِهِ، فَالَّذِي يَعُودُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ شَيْئًا مُغَايِرًا لِلْأَوَّلِ فَلَا يَكُونُ عَيْنُهُ.
وَأَمَّا الْمَقَامُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا بَطَلَ الْقَوْلُ بِالْبَعْثِ بَطَلَ الْقَوْلُ بِالنُّبُوَّةِ وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: / الْأَوَّلُ: أَنَّ مُحَمَّدًا كَانَ دَاعِيًا إِلَى تَقْرِيرِ الْقَوْلِ بِالْمَعَادِ، فَإِذَا بَطَلَ ذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ دَاعِيًا إِلَى الْقَوْلِ الْبَاطِلِ وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ رَسُولًا صَادِقًا. الثَّانِي: أَنَّهُ يُقَرِّرُ نُبُوَّةَ نَفْسِهِ وَوُجُوبَ طَاعَتِهِ بِنَاءً عَلَى التَّرْغِيبِ فِي الثَّوَابِ وَالتَّرْهِيبِ عَنِ الْعِقَابِ، وَإِذَا بَطَلَ ذَلِكَ بَطَلَتْ نُبُوَّتُهُ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَدَّعُونَ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا فَنِيَ وَصَارَ عَدَمًا مَحْضًا وَنَفْيًا صِرْفًا، فَإِنَّهُ بَعْدَ هَذَا الْعَدَمِ الصِّرْفِ لَا يَعُودُ بِعَيْنِهِ بَلِ الْعَائِدُ يَكُونُ شَيْئًا آخَرَ غَيْرَهُ. وَهَذَا الْقَسَمُ وَالْيَمِينُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَدَّعُونَ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِأَنَّ عَوْدَهُ بِعَيْنِهِ بَعْدَ عَدَمِهِ مُحَالٌ فِي بَدِيهَةِ الْعَقْلِ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ عَلَى أَنَّهُمْ يَجْحَدُونَ فِي قُلُوبِهِمْ وَعُقُولِهِمْ