للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَذَلِكَ مِمَّا لَا يَكُونُ أَوْ إِنْ كَانَ فَهُوَ فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ وَالْقِلَّةِ، ثُمَّ إِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا سَمِعَ التَّخْوِيفَ بِأَنَّهُ يَصْلَى النَّارَ الكبرى وأنه لا يموت فيها ولا يحيى انْكَسَرَ قَلْبُهُ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَسْتَمِعَ وَيَنْتَفِعَ أَغْلَبُ الْخَلْقِ فِي أَغْلَبِ الْأَحْوَالِ، وَأَمَّا ذَلِكَ الْمُعْرِضُ فَنَادِرٌ، وَتَرْكُ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ لِأَجْلِ الشَّرِّ الْقَلِيلِ شَرٌّ كَثِيرٌ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ كَانَ قَوْلُهُ: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى يُوجِبُ تَعْمِيمَ التذكير.

المسألة الثانية: السِّينُ فِي قَوْلِهِ: سَيَذَّكَّرُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى سَوْفَ يَذَّكَّرُ وَسَوْفَ مِنَ اللَّهِ وَاجِبٌ كقوله: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى [الأعلى: ٦] وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ مَنْ خَشِيَ اللَّهَ فَإِنَّهُ يَتَذَكَّرُ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ حِينٍ بِمَا يَسْتَعْمِلُهُ مِنَ التَّدَبُّرِ وَالنَّظَرِ فَهُوَ بَعْدَ طول المدة يذكر، والله أعلم.

المسألة الثالثة: الْعِلْمُ إِنَّمَا يُسَمَّى تَذَكُّرًا إِذَا كَانَ قَدْ حَصَلَ الْعِلْمُ أَوَّلًا ثُمَّ نَسِيَهُ وَهَذِهِ الْحَالَةُ غَيْرُ حَاصِلَةٍ لِلْكَفَّارِ فَكَيْفَ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِالتَّذَكُّرِ؟ وَجَوَابُهُ: أَنَّ لِقُوَّةِ الدَّلَائِلِ وَظُهُورِهَا كَأَنَّ ذَلِكَ الْعِلْمَ كَانَ حَاصِلًا، ثُمَّ إِنَّهُ زَالَ بِسَبَبِ التَّقْلِيدِ وَالْعِنَادِ. فَلِهَذَا أَسْمَاهُ اللَّهُ تعالى بالتذكر.

المسألة الرابعة: قِيلَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ. أما قوله تعالى:

[سورة الأعلى (٨٧) : الآيات ١١ الى ١٢]

وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (١٢)

فَاعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ أَقْسَامَ الْخَلْقِ ثَلَاثَةٌ الْعَارِفُونَ وَالْمُتَوَقِّفُونَ وَالْمُعَانِدُونَ، وَبَيَّنَّا أَنَّ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لَهُمَا خَوْفٌ وَخَشْيَةٌ، وَصَاحِبُ الْخَشْيَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَسْتَمِعَ إِلَى الدَّعْوَةِ وَيَنْتَفِعَ بِهَا، فَيَكُونُ الْأَشْقَى هُوَ الْمُعَانِدُ الَّذِي لَا يَسْتَمِعُ إِلَى الدَّعْوَةِ وَلَا يَنْتَفِعُ بِهَا، فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى وفيه مسائل:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ النَّارَ الْكُبْرى وُجُوهًا أَحَدُهَا: قَالَ الْحَسَنُ: الْكُبْرَى نَارُ جَهَنَّمَ، وَالصُّغْرَى نَارُ الدُّنْيَا وَثَانِيهَا: أَنَّ فِي الْآخِرَةِ نِيرَانًا وَدَرَكَاتٍ مُتَفَاضِلَةً كَمَا أَنَّ فِي الدُّنْيَا ذُنُوبًا وَمَعَاصِيَ مُتَفَاضِلَةً، وَكَمَا أَنَّ الْكَافِرَ أَشْقَى الْعُصَاةِ كَذَلِكَ يَصْلَى أَعْظَمَ النِّيرَانِ وَثَالِثُهَا: / أَنَّ النَّارَ الْكُبْرَى هِيَ النَّارُ السُّفْلَى، وَهِيَ تُصِيبُ الْكُفَّارَ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النِّسَاءِ: ١٤٥] .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالُوا: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْوَلِيدِ وَعَتَبَةَ وَأُبَيٍّ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ بَيَّنَّا صِحَّةَ هَذَا التَّرْتِيبِ بِالْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذكر هاهنا قِسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا: الَّذِي يَذَّكَّرُ وَيَخْشَى وَالثَّانِي:

الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى، لَكِنَّ وُجُودَ الْأَشْقَى يَسْتَدْعِي وُجُودَ الشَّقِيِّ فَكَيْفَ حَالُ هَذَا الْقِسْمِ؟ وَجَوَابُهُ:

أَنَّ لَفْظَةَ الْأَشْقَى لَا تَقْتَضِي وُجُودَ الشَّقِيِّ إِذْ قَدْ يَجْرِي مِثْلُ هَذَا اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ مُشَارِكَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الْفُرْقَانِ: ٢٤] وَقِيلَ: الْمَعْنَى، وَيَتَجَنَّبُهَا الشَّقِيُّ الَّذِي يَصْلَى كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الرُّومِ: ٢٧] أَيْ هَيِّنٌ عَلَيْهِ، وَمِثْلَ قَوْلِ الْقَائِلِ:

<<  <  ج: ص:  >  >>