الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ لَهُمْ دَارَ السَّلَامِ بَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى وَلِيُّهُمْ بِمَعْنَى الْحِفْظِ وَالْحِرَاسَةِ وَالْمَعُونَةِ وَالنُّصْرَةِ فَكَذَلِكَ لَمَّا بَيَّنَ حَالَ أَهْلِ النَّارِ ذَكَرَ أَنَّ مَقَرَّهُمْ وَمَثْوَاهُمُ النَّارُ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ أَوْلِيَاءَهُمْ مَنْ يُشْبِهُهُمْ فِي الظُّلْمِ وَالْخِزْيِ وَالنَّكَالِ وَهَذِهِ مُنَاسَبَةٌ حَسَنَةٌ لَطِيفَةٌ.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: كَافُ التَّشْبِيهِ فِي قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ نُوَلِّي تَقْتَضِي شَيْئًا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَالتَّقْدِيرُ: كَأَنَّهُ قَالَ كَمَا أَنْزَلْتَ بِالْجِنِّ وَالْإِنْسِ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمُ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ الدَّائِمَ الَّذِي لَا مُخَلِّصَ مِنْهُ: وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً لِأَنَّ الْجِنْسِيَّةَ عِلَّةُ الضَّمِّ فَالْأَرْوَاحُ/ الْخَبِيثَةُ تَنْضَمُّ إِلَى مَا يُشَاكِلُهَا فِي الْخُبْثِ وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْأَرْوَاحِ الطَّاهِرَةِ فَكُلُّ أَحَدٍ يَهْتَمُّ بِشَأْنِ مَنْ يُشَاكِلُهُ فِي النُّصْرَةِ وَالْمَعُونَةِ وَالتَّقْوِيَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّعِيَّةَ مَتَى كَانُوا ظَالِمِينَ فَاللَّهُ تَعَالَى يُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ ظَالِمًا مِثْلَهُمْ فَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَتَخَلَّصُوا مِنْ ذَلِكَ الْأَمِيرِ الظَّالِمِ فَلْيَتْرُكُوا الظُّلْمَ وَأَيْضًا الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْخَلْقِ مِنْ أَمِيرٍ وَحَاكِمٍ لِأَنَّهُ تَعَالَى إِذَا كَانَ لَا يُخَلِّي أَهْلَ الظُّلْمِ مِنْ أَمِيرٍ ظَالِمٍ فَبِأَنْ لَا يُخَلِّي أَهْلَ الصَّلَاحِ مِنْ أَمِيرٍ يَحْمِلُهُمْ عَلَى زِيَادَةِ الصَّلَاحِ كَانَ أَوْلَى.
قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا يَصْلُحُ لِلنَّاسِ إِلَّا أَمِيرٌ عَادِلٌ أَوْ جَائِرٌ فَأَنْكَرُوا قَوْلَهُ: أَوْ جَائِرٌ فَقَالَ: نَعَمْ يُؤَمِّنُ السَّبِيلَ وَيُمَكِّنُ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَوَاتِ وَحَجِّ الْبَيْتِ.
وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ سال الرسول صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ الْإِمَارَةَ فَقَالَ لَهُ: «إِنَّكَ ضَعِيفٌ وَإِنَّهَا أَمَانَةٌ وَهِيَ فِي الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ إِلَّا من أخذها بحثها وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا»
وَعَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ: جَاءَ فِي بَعْضِ كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى- أَنَا اللَّهُ مَالِكُ الْمُلُوكِ قُلُوبُ الْمُلُوكِ وَنَوَاصِيهَا بِيَدِي فَمَنْ أَطَاعَنِي جَعَلْتُهُمْ عَلَيْهِ رَحْمَةً وَمَنْ عَصَانِي جَعَلْتُهُمْ عَلَيْهِ نِقْمَةً لَا تَشْغَلُوا أَنْفُسَكُمْ بِسَبِّ الْمُلُوكِ لَكِنْ تُوبُوا إِلَيَّ أُعَطِّفُهُمْ عَلَيْكُمْ-.
أَمَّا قَوْلُهُ: بِما كانُوا يَكْسِبُونَ فَالْمَعْنَى نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِسَبَبِ كَوْنِ ذَلِكَ الْبَعْضِ مُكْتَسِبًا لِلظُّلْمِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ مَا بَيَّنَّا أَنَّ الجنسية علة للضم.
[[سورة الأنعام (٦) : آية ١٣٠]]
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (١٣٠)
اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ بَقِيَّةِ مَا يَذْكُرُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي تَوْبِيخِ الْكُفَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُمْ إِلَى الْجُحُودِ سَبِيلٌ فَيَشْهَدُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ وَإِنَّهُمْ لَمْ يُعَذَّبُوا إِلَّا بِالْحُجَّةِ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْمَعْشَرُ كُلُّ جَمَاعَةٍ أَمْرُهُمْ وَاحِدٌ وَيَحْصُلُ بينهم معاشرة/ ومخالطة والجمع: المعاشر. وقوله: سُلٌ مِنْكُمْ
اخْتَلَفُوا هَلْ كَانَ مِنَ الْجِنِّ رَسُولٌ أَمْ لَا؟ فَقَالَ الضَّحَّاكُ: أُرْسِلَ مِنَ الْجِنِّ رُسُلٌ كَالْإِنْسِ وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ وَتَلَا قَوْلَهُ: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [فَاطِرٍ: ٢٤] وَيُمْكِنُ أَنْ يَحْتَجَّ الضَّحَّاكُ بِوَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا [الْأَنْعَامِ: ٩] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: السَّبَبُ فِيهِ أَنَّ اسْتِئْنَاسَ الْإِنْسَانِ بِالْإِنْسَانِ أَكْمَلُ مِنَ اسْتِئْنَاسِهِ بِالْمَلَكِ، فَوَجَبَ فِي حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ رَسُولَ الْإِنْسِ مِنَ الْإِنْسِ لِيَكْمُلَ هَذَا الِاسْتِئْنَاسُ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا الْمَعْنَى، فَهَذَا السَّبَبُ حَاصِلٌ فِي الْجِنِّ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ الْجِنِّ من الجن.